جوته وشيللر.. الواقعية في صحبة المثالية

  • 8/19/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: «الخليج» يوهان جوته (28 أغسطس 1749 - 22 مارس 1832) إنسان لا يجود الدهر بأمثاله إلا نادراً، فقد كان أديباً وشاعراً وفيلسوفاً ومؤرخاً وعالماً في الطبيعيات ومحامياً ووزيراً، ولم يدع نوعاً من الأنواع الأدبية إلا كتب فيه وتفوق، وأقام بين الثقافة الألمانية والثقافات الأخرى جسوراً، شجعت على التفاعل والتبادل بينها، وعاش أكثر من ثمانين عاماً حافلة بالأحداث «يتنقل بين مصادفات رائعة، دبرها له القدر، وبين ظروف مواتية، مهدتها له قدراته، وإذا أردت أن تكتب قصة حياته، وجدت صعوبة بالغة، تعترض مهمتك، هي ضخامة المعلومات، التي تجمعت عنه، التي توشك أن تكفي لإعادة تصويرها في بعض مراحلها ساعة بساعة» على حد تعبير د. مصطفى ماهر في تقديمه لترجمة مسرحية جوته «نزوة العاشق والشركاء».المتتبع لحياة جوته يتبين أشياء معينة أثرت في تكوينه وثقافته، أول هذه الأشياء: البيت الذي ولد وسكن فيه، والثاني هو المدينة التي فتح عينيه عليها، مدينة فرانكفورت، وكانت تضطرب بالتجارة والثقافة والسياسة، والشيء الثالث هو مسرح العرائس الصغير، الذي تلقاه هدية من جدته، وإضافة إلى ذلك كان لدى الصبي اهتمام فطري بالأدب، وكان يكثر من القراءة، ويحاول الكتابة، إلى أن بلغ شهرة جعلت اسمه على كل لسان، وجعلته محط اهتمام الجميع، وحين انتقل للإقامة في فايمار أهداه أميرها بيتاً، وهناك التقى صديقه شيللر، وأعاد صياغة رائعته «فاوست».أما شيللر، فهو شاعر ومسرحي وفيلسوف ومؤرخ ألماني (10 نوفمبر 1759 - 9 مايو 1805) أسس هو وجوته الحركة الكلاسيكية في الأدب الألماني، وهو الولد الوحيد لأبيه الذي كان طبيباً في الجيش، وأمه التي كانت لديها نزعة تدين، فزرعت في نفسه المثل العليا.التحق شيللر في طفولته وصباه بمدرسة القرية، ثم بالمدرسة اللاتينية، وبعد أن أنهى دراسته فيهما، أراد أن يدرس اللاهوت، لكن آماله فشلت بسبب إلحاقه بالأكاديمية العسكرية، واختار في البداية أن يدرس القانون، لكنه تحول في عام 1775 إلى دراسة الطب، وبدأ يكتب محاولات شعرية أولى، نشر منها قصيدة «المساء».بدأ شيللر في عام 1777 كتابة مسرحيته الأولى «اللصوص»، تحت تأثير أفكار عصر التنوير، وفي هذه المسرحية يتجسد رفضه للسلطة المطلقة، والنزوع نحو الحرية، وكان العرض الأول للمسرحية في 13 يناير 1782، ونجح نجاحاً أسطورياً، جعل شيللر من ألمع الشخصيات الأدبية في ألمانيا، ومع ذلك صدر قرار بمنع كتاباته لما فيها من دعوة إلى الحرية.أصابت شيللر في هذه الفترة أزمة مالية ونفسية سيئة، نجح في اجتيازها، وتوالت بعد ذلك أعماله الدرامية، وكان وسط الأزمات المادية، يريد أن يستقر ليتفرغ لأعماله، فارتحل إلى فايمار في عام 1784 وهناك التقى جوته، الذي ربطت بينهما صداقة عميقة، كانت من أشهر الصداقات في التاريخ الأدبي. اللقاء الأول في 7 سبتمبر عام 1788 حدث أول لقاء بين جوته وشيللر، لكنه كان لقاء أقرب إلى التكلف، وأسفر عن اهتمام جوته بشيللر، وعمل على تعيينه أستاذاً للتاريخ في إحدى الجامعات، ولم يكن شيللر راضياً عن ذلك، وظل ينكر من أمر جوته الكثير، وفي أول نوفمبر كتب يقول: «لست أحب فلسفة جوته حباً كاملاً، إنها تستمد الكثير من عالم الحواس، بينما أعتمد أنا على العقل، وتفكيره بصفة عامة، له طريقة مسرفة في الحسية، لكن فكره يعمل وينقب في كل الاتجاهات، ويسعى إلى إنشاء كل متكامل، وهذا ما يجعله في نظري رجلاً عظيماً».استمرت العلاقة على هذا النحو إلى أن جاء يوم 14 يوليو 1794 حين انعقدت في الجامعة جلسة بحثية، ونشبت مناقشة بينهما، أحس الرجلان بعدها أنهما لابد أن يتلازما: جوته بقوة انطباعاته الحسية، وشيللر بقوة أفكاره العقلية، جوته بواقعيته، وشيللر بمثاليته، وقد كتب شيللر إلى جوته خطاباً، يرسم فيه صورة رائعة لعبقرية جوته، ويحضه على العودة إلى النشاط، بعد أن توقف عن الإنتاج. في هذا الخطاب يقول شيللر: «إني لآمل أن نسير ما بقي من طريقنا معاً، وآمل أن يكون في ذلك نفع أكبر، فإن رفاق السفر الذين يلتقون متأخراً، بعد رحلة طويلة، يكون لديهم بقدر التأخر، ما يحكيه بعضهم للبعض الآخر»، وقد تحقق هذا الأمل، وعاد جوته إلى النشاط، أو على حد قوله، ولد من جديد.في 9 مايو عام 1805 فقد جوته، وهو في منتصف العقد السادس من عمره، صديقه العظيم، ثقل عليه مرضه الرئوي، حتى أهلكه، وقال جوته: «لقد ضاع مني بضياعه نصف وجودي»، وكان المقربون من جوته، لا يعرفون طريقة، يبلغونه بها، أن صديقه قد مات، وكان في ذلك الوقت مكتئباً، كأنما يحس بيد القدر، تقترب من نصف كيانه، وتشجعت زوجته، وأبلغته بأن شيللر مريض جداً، فحزن ولم يشك في شيء، وفي اليوم التالي سألها عنه، فقالت له إنه مريض جداً، وضغط على كلمة جداً، فانفجرت باكية، فسألها: هل مات؟ فردت عليه: «لقد قلتها بنفسك، فرفع يديه إلى وجهه، وغطى عينيه، وبكى». شيخوخة بعد موت شيللر بدأت شيخوخة جوته، وكان المرض قد حل به، واشتد حتى أوشك على الموت، هذا بالإضافة إلى ترهل جسمه، وسقوط أسنانه الأمامية، لكن الشيخوخة لم تتمكن من عقله، وظل يكتب حتى اختطفه الموت، ففي منتصف مارس عام 1832 أصيب بنزلة برد، واعترته رعشة وحمى وآلام في الصدر، وكانت بجواره زوجة ابنه وأحد الخدم، وقال لهما: «افتحا شباك الحجرة الآخر، حتى يدخل مزيد من النور»، وكانت تلك آخر عبارة قالها، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

مشاركة :