أذن الله تعالى لنبيّه محمد ﷺ بالهجرة إلى مدينة يثرب والتي أصبحت تُعرف بعد وصول الرسول عليه السلام إليها بالمدينة المنورة بعد قضائه ثلاث عشرة سنةٍ من البعثة والدعوة في مكة المكرمة، وذلك بعد أنّ تآمر عليه كفّار قريش للتخلص منه ووقف دعوته، فمنهم من رأى حبسه، ومنهم من رأى نفيه وإخراجه، إلى أن اتفقوا على أن يأتوا من كل قبيلةٍ برجلٍ يقف على باب بيته، فإذا خرج ضربوه ضربة رجلٍ واحدٍ؛ فلا تتمكن حينها بنو هاشم من المطالبة بالقصاص، ويضيع دمه بين القبائل، وقد أطلع الوحي جبريل عليه السلام، رسول الله بمؤامرة قريش، فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنوم في فراشه، وأن يتأخر عنهم بالقدوم إلى المدينة ليؤدي عنه أمانات الناس، وأغشى الله النّعاس على رجال قريش وكانوا عشرة، فلم يروا النبي ﷺ، ونجاه الله تعالى من سيوفهم، وبعد أن أدرك المشركون أنّ عليًّا قد خدعهم بمبيته في فراش النبي الشريف، أسروه لديهم، وانطلقوا فور بلوغهم خبر هجرة النبي لمطاردته ومحاولة قتله، قبل أن يبلغ مسعاه، وقد وضعوا لقاء ذلك عديد الجوائز من مال وذهب ورصدوا مئة ناقة وغيرها من المغريات، فخرجوا يبحثون ويفتشون الجبال والطرقات، حتّى بلغوا غار ثور والذي كان فيه النبي ﷺ وصاحبه الصديق رضي الله عنه؛ فأعمى الله أبصارهم وأغشى أفئدتهم، وقد روى أبو بكر في الصحيح من الحديث عما جرى في ذلك الحين، فقال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: وأنا في الغار: لو أنَّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكرٍ باثنين الله ثالثهما» (رواه البخاري ومسلم).سبق هجرة الرسول ﷺ إلى يثرب عددٌ من الهجرات، وهي هجرة أصحابه إلى الحبشة مرتين بأمر منه عليه الصلاة والسلام؛ أما هجرة الحبشة الأولى فكانت بعد أنْ اشتدّ أذى مشركي قريش على المسلمين في مكة فأشار عليهم النبي عليه السلام بالهجرة فراراً بدين الله تعالى وحماية لأنفسهم من بطش المشركين، واختار لهم أرض الحبشة، لأنّ فيها ملكاً عادلاً، لا يقبل الظلم على أحد، وكانت هذه الهجرة أول هجرة من مكة، وكانت في السنة الخامسة من البعثة، وبلغ عدد المهاجرين عشرة رجال وأربع نسوة، وكان منهم: عثمان بن عفان ومعه زوجته رقيّة بنت رسول الله عليه السلام، وأما هجرة الحبشة الثانية كانت في أواخر العام العاشر وبداية العام الحادي عشر من البعثة، وقد كانت قريش قد ضاعفت أذاها على المسلمين الممتحنين في دينهم وأنفسهم؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم مجدداً بالخروج إلى الحبشة؛ فخرج نحو بضع وثمانين رجلاً وثماني عشر امرأة، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء بن عميس، وبعد خروجهم لم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدد قليل ممّن أسلموا معه في مكة.دوافع هجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة:١- تعرُّض الرسول ﷺ ومن آمن به للأذى من كفار قريش في مكة، فقد تعرض المؤمنين الأوائل لإيذاء شديد من المشركين، وقد وصل الإيذاء لدرجة التعدي على رسول الله ﷺ، وأشد ما حدث من إيذاء كان يوم الطائف عندما ذهب رسول الله ليدعو أهلها إلى الإسلام فرفضوا وأعتدوا عليه؛ فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين ثم ناجى ربه وقال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى قريب ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هى أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلى بك».٢- الحصار الذي فرضته قريش على المسلمين وعلى بني هاشم خاصةً، حيث تآمرت قريش واجتمع رجالٌ منها على تنفيذ حصارٍ ظالمٍ يقتضي مقاطعة المسلمين، وحصارهم اقتصادياً واجتماعياً؛ فلا يتزوجوا منهم أو يزوجوهم، ولا يبتاعوا منهم أو يبيعوهم، وأصاب المسلمون من هذا الحصار أذىً وسوءاً شديداً؛ حتّى إنّ منهم من أكل ورق الشجر من شدّة الجوع، واستمر الحصار والمقاطعة حتى اجتمع أربعة رجالٍ من قريش يرفضون فيما بينهم مقاطعة أبناء عمومتهم وأرحامهم من بني هاشم، واتّفقوا على إنهاء المقاطعة، وجاؤوا إلى قريش ليخبروهم بوجوب إنهاء المقاطعة، فلما رجعوا إلى الصحيفة التي كُتبت عليها بنود المقاطعة وجدوها وقد أكلتها حشرة الأرضة إلا لفظ الجلالة.٣- رفض أهل مكة لدعوة الإسلام، وتضييقهم على الرسول ﷺ وأصحابه، حيث حرص الرسول على إيصال دعوته إلى قومه، وتركهم عبادة الأصنام وتوحيد الله تعالى؛ فاستعمل معهم كل أساليب الرفق في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ بشتى صورها، وبالحكمة والموعظة الحسنة، لكن معظمهم لم يهتد، وواجه المسلمون رفضًا كبيرًا منهم خصوصًا من كبار قريش، فبحث النبي عن مكانٍ آخر يكون أكثر استعدادًا لقبول دعوته، فكان هذا المكان هو يثرب، وقد لقي النبي ﷺ في المدينة المنورة وأهلها قبولاً للدعوة وإقبالاً عليها، خاصة حين لقي في موسم الحج جماعةً من الخزرج، ودعاهم للإسلام.٤- كانت الهجرة النبوية ضرورة ملحة لأجل تأسيس كيان متكامل، وإقامة أسسه، وهذا لم يكن ليتحقق في مكة، بسبب بطش قريش، خصوصًا أن الدعوة الإسلامية لم تكن تقتصر على مكة والقبائل المجاورة، بل هي دعوة للناس كافة، فكان لا بُد من تأسيس كيان إجتماعي تحت نظام سياسي، في نطاقٍ ومحيطٍ آمنٍ، يحفظ أمن ساكنيها، ويكفل للدعوة الحقّ في الإنتشار، وكُلُّ عامٍ وأَنتُم بِخيرٍ.
مشاركة :