ريشة الفنان تصوير حي لما ترك أثرا حادا في ذهنيته، على طول شريط الحياة التي يمر عليه منذ لحظة الولادة، مسألة تبعث على الذهن أبجديات الإنسان في أن يكون إنسانا طبقا لما تمليه عليه تجربته الخاصة واشتباكاته الفردية مع الوجود من خلال الحركة الأكثر والأقل تكلفة "الفن" كأول لقاء مدبر بين الذات والغير بل والعقل الكوني، الذي يجعل المسلمات موطئا للغرابة وباعثة للتأويل بعدما كانت مجرد صور ظاهرية لا تختلف عن غيرها . يستأثر الفنان لاسيما الرسام أعماله من خلال الصورة وانعكاسها، بالإضافة إلى الإنطباع الذي تخلفه، مما يولد اندفاعا مباشرا نحو إعادة تشكيل نفس اللحظة والمشهد لكن على مسرح الحادثة داخل المرسم مدفوعا بإرادة لامتناهية تقف على: الغموض، الكبت، الشر، الخير. يقول جيل دولوز في إحدى محاضراته الموجهة لطلبة السينما: إن الإبداع مقاومة للألم. تصريح يثبت فعاليته خاصة في فن الكاريكاتير الذي صار عملية هضم سارية المفعول على صفحات الجرائد التي تطعم من خلاله استهلاك سريالية الموت والفجع والفساد بطريقة تجعل القارئ يقبل على جحيمه المفتعل بين سطور الجريدة بطواعية يطبعها الكاركاتير بكل هدوء. توجه الرسوم الكاركاتيرية نقدا لاذعا ربما أكثر من المقالات الإخبارية والنقدية، فالصورة أكثر تعبيرا من الكلمة في عصر الصورة والحركة لا لشيء سوى أنها تبدع في عملية رسم واقع مألوف يفسح مساحة لتمظهر عقل تواصلي يبتدع تأثيره الإتصالي وفق شكل يدركه الجميع المثقف وغير المثقف، لتتحقق ديمقراطية الفن من خلال عمليات التجسيد، التذويت والسخرية على سبيل ابتلاع المرارة، وتجنيس العدمية في كثير من الأحيان بجغرافية صورية متداولة أو طرح ظاهرتي يبدو بسيطا للوهلة الأولى دون أن يكون ممنوعا من تخزين المعاني والحقائق التي يصدرها للمتلقي الفطن المتمرس على بديهة السوسيولوجيا المحلية التي تنشأه قبل أن يتوجه لها بالنقد أو يدعمها بالتأييد.عقب الأحداث المريعة التي عرفتها بيروت، نسخت معظم الجرائد كاريكاتير الدخان الأبيض والنار وكأنها قيامة أعلنت على إسدال رداء اصطدام حضاري إبستيمولجي طال، لكن ليس بشكل كوميدي كما اقتضت العادة، بل بطريقة تبدي على الإنسان العربي سؤالا جادا: "كيف حذث ذلك، أين كنا ثم أين صرنا؟" قلق بأعلى صوت وبأوضح صورة للعالم، قدمت وسائل الإعلام أكثر من جواب تقني وإخباري كالعادة مع الإختلافات الجاري بها العمل حول أعداد الموتى والجرحى بحكم هاجس السبق الصحفي لدى كل جهة، في عمق المتاهة التي تناقلتها القنوات والمواقع الإخبارية كان الفكر مذوتا في "بوذا" مشخصا بذلك وجوده في السياق الذي لا ينفك عن التفكير مقدما بشكل مسبق لهذه الفاجعة أو غيرها رده قبل حدوث الكارثة، من خلال تسليط الضوء في كل مناسبة على "وهم الواقع" و"واقع الواقع" تلك الصورة غير المفلترة التي تعاش ولا تحكى على لسان المعلق الصوتي أو خبير الإقتصاديات تقابلها إستشكالات عدة: هل كل ما نراه وما نلمسه، وما نستشعره حقيقيا؟! إستشكال يعيد جدلية الحقيقة إلى ساحة الثقافة على ضوء ما حدث، فجميعنا دخل بيروت من دون تأشيرة، كلنا بنينا وجودنا هناك من هنا على هاوية الورق المولج للأدب العالمي وتجمعات أقلام صودرت من مهدها إلى لحدها الأبدي "بيروت"، فمن منا حاول ولو لمرة واحدة إيجاد بيروت بطريقة شخصية بعيدا عن الطباعة وعن الدراما وعن جميلاتها اللواتي يلوحن بالموضة في أقبية شانيل وغوتشي؟ في عز الحرب الأهلية غنت فيروز: "بحبك يا لبنان بجنوبك بشمالك"، ربما هي من بين القلائل من أقبلوا على الحب من ذون سببية أو روابط أريكيولوجية تسحب معها الهوية كدافع للمحبة؛ فالحب لا موضوع له كذلك، وطن مثل لبنان لا يحتاج لمبرر واضح لنحبه، موطن الأرز يحتضر منذ نشأته الأولى في عشرينيات القرن المنصرم بفعل تعدد قومياته وصراع مماليكه التي مزجت الدين بالسياسة "التيولوجيا"، مع ذلك لا يزال العديد منا يبحث عن أسباب تجعله يحب هذا الوطن دون ذاك أو العكس. أصاب فنانو الكاريكاتير خاصة في هذه الظرفية التي ضغطوا فيها بالحبر على الوتر الحساس: "الإنسانية" بعيدا عن الفرق والمذاهب التي حولت الفرد منا من إنسان عادي يخضع لمحاولة عيش إلى ساعة حائطية تلتف عقاربها حول سؤال الهوية المتعقدية، وجدال امتلاك الحقيقة، في وقت قرر فيه العديد من المواطنين للهجرة ومواجهة الموت للهروب من إنسانية لم تعد محتملة نحو إنسانية غيرها. الأمر مريب للغاية. إن الرسوم التي توفرها الجرائد بالكاركتير نقلة مفصلية من المثال إلى الواقع، ومن الذاتية نحو الجماعة عملية تبادلية عكسية تبرز إلى أي حد صحة نظرية فرويد حول التذويت الذي تمرره التنشئة للطفل ليكون في رشده نسخة عن المجتمع الذي نمذجه ووجد فيه، ما من شأنه إما أن يخلق موظفا تابعا لا يرفض ولا يقبل بل ينفذ، أو يثمر ثائرا يريد أن يظهر إنسانيته للعالم دون أن يقبعها في أباجورة الكبت فيكون بذلك فنانا، يمرر الليبدو في طاقة تجسده شعورا مفعما بالخوف والحب والكراهية دفعة واحدة من خلال لوحة أو رسم كاريكاتير على أيامنا هذه الأمر مطابق تماما ولو أن السياق الثاني أكثر سخرية في عملية إعادة تدوير الألم لنكتة، والأيديولوجيا لدعابة خفيفة الظل.بين مؤيد ومعارض هناك من يرى في الكاريكاتير إبداعا، بينما العديد يصنفه كقضية معلنة عن ذاتها لصالح موضوع أو ذاك، لكلا الموقفين تناصه لكن الغائب على الكثيرين أن العديد من الرسوم الكاريكاتيرية تمهد لمشروع فيلسوف ناقد من خلال ريشته في زمن لم تعد فيه الفلسفة تؤيد أو تعارض بيد أنها تتماشى وحسب هي الأخرى مع التيار بتقديم خبرتها للتقنية الرقمية، ذلك الفكر البعد ميتافيزيقي الذي يعترف بالأزرار وسرعة اللاسلكي، أكثر بكثير من اعترافه بديمقريطس أو فيوجيل الكلبي، أو هيغل بل العكس من ذلك تعالت تنقيحات فلسفية قدمت العديد من المشاريع الفكرية اللينة لاسيما من طرف باتريك سلوتردايك فوكو، دريدا، وغيرهم. لعل تلك الرسوم الساخرة المدجنة في كثير منها بمشاهد السمنة والبطون المنتفخة والورقات النقدية، حقيقة تعكس جدلية المجتمعات الحديثة التي تدور حول: "المال، السلطة، الجسد" ثلاثية صاغتها الإنسانية لعقود خاصة في المراحل الكولونيالية التي مر بها العالم (حرب العالمية ١و٢)، لكن الأمر يختلف اليوم، فالكل يلعب في ملعبه على نفس الجوكر: "اللذة"، أي وحدات إنسانية تلذذية تقف على الرغبة التي يجب أن تحقق وتظهر للعلن متجاهلة إتيقيا الكينونة بين الداخل والخارج في مفصلية الكون والكائن، بالتالي تكتستح المظاهر والعلامات التجارية عقلية وذهنية الفرد الحداثي وليس فقط جسده كأداة مخبرية لعرض آخر صيحات السوق. الركوض خلف تفريغ خزان الرغبات يشكل مادة خام لرسام الكاركاتير الساخر الذي هو بحاجة لمجسمات مهيمنة أكثر من حاجته لظواهر متفردة في المسلمات المستغلة من لذن المفكر أو الأديب مستهلك الفجوة عبر الكتابة. الكاركاتير هو رفيق لأدب الديستوبيا وعالم الشر الثقافي لأن الاثنين معا يزاوجان مفهوم الإنسان بالسريالية، ففي جميع الحالات الشر جزء منا مهما أخفيناه ورفضنا الرضوخ له، صانع الكاركاتير هو لص حقيقي يتفوق بمراحل طويلة من الخبرة على سارق المحفظات البسيطة لأنه لا يكتفي بالورقات النقدية بل يلتقط حفيظة المجتمعات من أعتى أبواب خصوصياتها الملموسة، كالسياسة وأخواتها: البطالة، العمل، العجز، نسبة النمو ومعدل الوفيات ...إلخ. بيد أن تلك التمظهرات في تقدير هذا المبدع تكون مرئية وقابلة لاختراقها في غنى عن الأوراق الشخصية والصفة والجنس، وثبوتيات الهوية، فالكل سواسية أمام رسام الكاريكاتير مدام أن كل هؤولاء الناس: العامل، الفلاح، المجرم، العاطل، المجنون، يبحثون عن الخلاص في لحظة يتخلص الكاريكاتير من عبء التبليغ عنهم في كل رسمة من رسوماته الساخرة، من بين المفكرين الأقرب لمبدأ الكاركاتير هو: سلافوي جيجيك، فيلسوف لم تترجم له عربيا عدد مهم من أعماله، ولو أنه منتج خصب للفلسفة في عصرنا، فضلا على ذلك في صياغته للنكتة كفكرة حية عوض وليست مجرد مدعاة للضحك والترفيه بل عنصر داعم للأفكار التي يقدمها كنقد الأنظمة النيوليبيرالية، موظفا الجنس أو ما نسميه نحن بدائة أو لغة شارع كأقرب مدخل لإخراج كبريات الجدليات الإنسانوية، فالأفكار التي تدمجها الممنوعات تكون أقوى من تلك التي تلتف على حبل النقاشات المشرعنة، عنصر الممنوع دوما يكفل باستحضار الإستتناء، لأن المقاومة تنطلق من رغبة غير محقّقة لحدود أنها قد تبدو مستحيلة، ففي نهاية الأمر لن نقاوم الشرطة مثلا إلا في ساعات الإحتجاج، ولن نحن للكسل إلا عندما ننهك من حدة العمل، ولن نمل من الروتين إلا بعد انقطاع طويل عن السفر، حتى الملل ذلك الفراغ القاتل المفعم بالراحة واللاشيء واللاواجب نحن نقاومه من خلال الثرثرة أو أفلام السينما مثلا، الشيء ذاته يعتمده الكاركاتير في الشخوص المتعددة، والعبارات الشعبية المسحوبة مع موجة التكتوك والأنستغرام "يوتوبيا الإيبيرية تحت توقيع الفاشنستات، والنجوم" بهذا الشكل تكون المقاومة عنصرا فعالا في الذات لتقويم طاقة الإبداع من منامها بعد التعرف على الجانب الحالك للوضعيات الإجتماعية المفرغة للخطابة المكررة من فاعليتها.
مشاركة :