ما الذي يحدث أثناء الكتابة، وكيف يجمع الكتَّاب أفكارهم، وما هو المكان المفضل للكتابة، وأسئلة أخرى كثيرة يمكن طرحها عن الطريقة المثلى ليوم من أيام الكتابة لدى الكتّاب. المترجم علي زين اختار تسعة وخمسين كاتباً وكاتبة من العالم ليحدثونا عن يوم من أيام الكتابة، في كتاب صدر عن منشورات تكوين 2007، عدد صفحاته268 صفحة، وقد اختلفت إجاباتهم وتقاطعت عند البعض واتفقت أو تشابهت عند البعض الآخر تبعاً لرؤية وظروف كل كاتب، فهناك من يفضل الكتابة في مكان صاخب في حين لا يستطيع آخرون إلا أن يكتبوا في جو تام من العزلة، ويختار البعض أوقاتاً محددة للكتابة، فيما يرى آخرون أن كل الأوقات متاحة إذا تدفقت الأفكار، وسنختار في هذه المقالة عدداً من الكتاب والكاتبات لأن الإشارة الى جميع الكتّاب لا يسمح بأخذ أكثر من المساحة المخصصة لهذه المقالة، وسنكتفي للسبب نفسه بأهم ما يتحدث به الكاتب وليس بكل ما يسترسل فيه. وسنبدأ مع الروائي هوارد جيكوبسون الفائز بجائزة البوكر عام 2010، يقول عن يوم من أيام عمله: أنا مثل رسام أضع مسحة من اللون ثم أخرج مسرعاً، وعن الوقت المفضل لديه يقول: أستيقظ مثل راهب في الساعة السادسة صباحاً، متجنباً الحديث مع أيٍ كان، أصنع الشاي وأتوجه الى طاولة الكتابة فوراً، ولا أنهض منها حتى تتورم عيناي. ما يهم هوارد جيكوبسون هو اللحاق بركب الكاتبين المفضلين لديه، جوزيف كونراد وتوماس ستيرنز إليوت، ويجيب عن سؤال عذاب الكتابة الذي طالما يسأله الناس عنها بأنه لا يستطيع أن يفكر الا فيما يشعر به قبل الشروع في أي نص، وما يهمه هو فعل الإبداع نفسه وليس التفكير فيه، ولذلك فهو ينفي شيئاً عن عذاب الكتابة.. وهوارد جيكوبسون لا يعين خطة للعمل أو موعداً لنهايته، ولا يعمل مسودات، ويقول: علمتني تجاربي أن كل أثر أفرغ من إنجازه سيغير الطقوس التي سأكتب فيها الأثر الذي يليه.أما الروائي الجامايكي كي ملر، الفائز بجائزة بوكاس للأدب الكاريبي عام 2007، فيحدثنا عن فترات الكتابة، فهي لا تأتيه منتظمة، يحدث أن تمتد لأيام عديدة يبدؤها من العاشرة ليلاً وحتى الصباح، أو ينقطع لعدة أيام، وهو لا يحبذ الكتابة في مكان بعينه، قد يكتب في المنزل، أو في المقهى، وأيضاً في صالات المطارات الصاخبة، وإذا لم ينشغل في الكتابة فإنه ينشغل بالتفكير فيها، ويقول عن ذلك: التفكير في جمل لم تكتب بعد ومحاولة نطقها على لساني واكتشاف إيقاعها وتوقفها وجريانها، أو قد أقضي تلك الأيام في مطاردة فكرة غريبة وتنتابني رغبة الإمساك بها. ومما قالته الروائية إليزابيث ستروت الحائزة على جائزة البوليتزر عام 2009، إنها تكتب أولاً بخط اليد والتفكير بصوت عال وطريقة صف فصول عملها، وإنها لا تستمع للموسيقى أثناء الكتابة، كما يفعل بعض الكتاب لأنها بحاجة الى الشعور بالوحدة داخل رأسها، وإنها لا تكتب النص من البداية الى النهاية، فالكتابة عندها رقص مع القارىء، تكتب في أي مكان، في مترو الأنفاق أو في المقهى المزدحم، لكن يبقى المنزل هو مكانها المفضل، وهي عادة لا تختلق المشهد حين تبدأ في الكتابة، إذ لا بد أن يكون واقعياً، مثل القلق الذي يساورها حول جلسة الأسنان المقبلة، أو التفكير بسلامة طفلها، بعد ذلك تنطلق في الكتابة، وتقول عن نفسها أثناء ذلك بأنها كاتبة فوضوية، تكتب المشاهد وتضعها على الطاولة، ثم ستعرف أي المشاهد ستختار، وأيها يذهب الى سلة المهملات. وتفكر بما يحتاجه القارىء، ودائماً ما تتخيل ذلك القارىء المثالي بأنه صبور، لكن ليس صبوراً جداً، قارىء يحتاج الكتاب ويريد قراءته لكنه قد لا يقرؤه إذا لم يُكتب بصدق. ويقول الروائي جونوثان كو الحائز على جائزة أفضل كتاب روائي لنقابة الكتّاب في بريطانيا عام 1997، وجائزة صاموئيل جونسون عام 2005: بأن أيام الكتابة تفتقر الى شكل معين، ولا تضبطها بنية محددة، أيام لا تحكمها مدة زمنية منضبطة، وقوامها متغير دائماً، فلا يوجد يوم من الأيام التي يمارس فيها الكتابة يشبه الآخر، قد يبدأ يوم الكتابة في مكتبه، ويمكن أن يكتب في شقة أخت زوجته عندما تكون مسافرة، أو في كوخ يستأجره لمدة أسبوع، أو في مقهى أو على متن قطار، ولا يهمه إن كان المكان صاخياً، وغالباً ما يكتب في البيت، ويرى أن الأمر المذهل في الكتابة أنها رحالة، وبصدد الأماكن الصاخبة يقول: إذا كنت مركزاً بعمق على العمل فإن الأصوات الصاخبة ستتلاشى تماماً، ويؤكد أن الكتب لا تأتيك الا بإرادتها ووتيرتها الخاصة. أما الروائية فال مكديرمد الحاصلة على جائزة ثيكستون لرواية العام "نوع الجريمة"، فتحدد أيام الكتابة لديها بأربعة أشهر، يناير وفبراير ومارس حتى شهر إبريل، عندما يكون الطقس في أسوأ حالاته، ويجبر الفرد على البقاء في المنزل، أما خارج ذلك فإنها تحب السفر بالقطارات فتستغل ذلك بالكتابة: أحب أن أكتب في القطارات لأن شبكة واي فاي سيئة وإشارة التلفون متقطعة والناس عموماً يظهرون احتراماً لسماعات الاذن واللابتوب المفتوح، ولطالما اندهشت من قدر ما أنتجه أثناء رحلات القطار. ومع ذلك فإنها تفضل الكتابة في المنزل حيث تمتلك مكتبين، مع سماع الموسيقى الهادئة. أما عن الوقت المفضل للكتابة فهي على عكس كثير من الكتاب الذين يبدأون الكتابة مبكراً ويستغرقون في الكتابة لساعات طويلة، بل تكتب على فترات، كل فترة 20 دقيقة لمواصلة التركيز، بعدها تترك العمل وتصنع لها فنجان قهوة أو تلعب على الحاسوب وربما تخرج لشراء شيء لتعود بعد ذلك وتكمل الكتابة، وتتوقف عن الكتابة بعد الساعة السابعة، وإذا كانت الكلمات تتدفق فإنها تعود لمكتبها وتستمر في العمل. ماذا عن الكتاب الذين يعملون في مهنة أخرى، وكيف ينسقون أوقاتهم؟ الروائي الطبيب ريموند تاليس يقول عن ذلك: على مدى سبعة وثلاثين عاماً كنت أقضي معظم الوقت في ممارسة الطب وتدريسه وإجراء الأبحاث فيه، بينما كان وقتي المخصص للكتابة الإبداعية يبدأ من الساعة السابعة صباحاً، تعودت على الكتابة في وقت مبكر يكون فيه الوعي بكراً. وبعد تقاعده من مهنة الطب أصبح الوقت ملكه، لذلك يقول: عادة ما أخرج من المنزل لأقضي فترات طويلة في الصباح وبعد الظهر في الحانات والمقاهي، كل ما أطلبه هناك هو طاولة جيدة الإضاءة مع عدم تشغيل الموسيقى، وثمة عادة لازمتها طوال حياتي وبقيت معي، وهي استغلال لحظات الفراغ لتسجيل تلك الأفكار التي تومض في رأسي كالبرق، ولذلك كانت كتبي تولد في صورة دفاتر ملاحظات، ثم تتطور بما يشبه التبلور ليظهر في النهاية عنوان مؤقت يشير الى الالتزام بموضوع أو مسار استقصائي معين، ومن ذلك الغموض تظهر ملامح التركيب في صورة عناوين للفصول تثير الأفكار وتضعها في موضعها المناسب. يوم في حياة كاتب، كتاب مهم وممتع، للكتّاب والقراء، سياحة فكرية مع تجارب مبدعين لهم مكانتهم في خارطة الأدب العالمي.
مشاركة :