كانت جدلية العلاقة بين الشرق والغرب عبر التاريخ مثار خلاف، وتأرجحت بين القبول والرفض بتدرجاتهما. وكان من تجليات هذه العلاقة الغامضة العديد من الحروب والمعارك الكبرى والاحتلالات المتبادلة بين أمم المنطقتين عبر الآلاف من السنين. ولعل أحد أهم معالم غموض وتوتر هذه العلاقة هو حركة الاستشراق. نشأت حركة الاستشراق في فترة مبكرة ثم توطدت جذورها وامتدت لتشمل معارف أوسع وأسماء أكثر وكان لها تأثير كبير في الحياة الثقافية للشرق والغرب معا. فما هو الاستشراق؟ جاء في لسان العرب “شرقت الشمس تشرق شروقا وشرقا، طلعت. واسم الموضع المشرق والتشريق الأخذ من ناحية المشرق، ويقال شتان بين مشرق ومغرب”. ولكن التعريف الاصطلاحي المعرفي يذهب بعيدا عن المنطق الجغرافي للكلمة، ويوجد لها بعدا دلاليا جديدا. الشرق عند الغربيين في اللغات الأوروبية هو المقترن بمعنى الشروق والضياء ومنهم من يرى فيه الهداية وفريق يراه مرتبطا بشروق الشمس كدلالة على البداية التي هي عكس الغروب بمعنى النهاية. وفي اللغة اللاتينية كلمة أورينت تعني التعلم. وفي سبيل الوصول إلى ضبط مفهوم الاستشراق تنادى العلماء والمستشرقون لوضع تعريف موحد لكنهم لم يصلوا إليه. تعدد التعريفات البعض رأى أن الاستشراق هو مجموعة الدراسات والأبحاث التي قام بها علماء غربيون عن الشرق. ورأى آخرون أنه تيار فكري عني في دراسة الشرق الإسلامي بآثاره وأديانه وآدابه وثقافته، وذهب فريق ثالث لإيجاد معيار عرقي فقالوا إن الاستشراق هو تميز عرقي ومعرفي بين الشرق والغرب. يعرف المفكر الجزائري الطيب بن إبراهيم الاستشراق في كتابه “الاستشراق الفرنسي وتعدد مهامه، خاصة في الجزائر” بأنه “لا يعتبر تاريخا أو جغرافيا فقط، ولا إنسانيا أو ثقافيا فحسب، وإنما هو مجموع ذلك كله، فهو مكان وزمان وإنسان وثقافة. والحديث عن الاستشراق مرتبط ارتباطا عضويا وتكامليا مع هذه العناصر الأربعة الأساسية، إذ لا بد له من مسافة زمنية ومساحة مكانية ونوع إنساني وإنتاج ثقافي وفكري. حركة الاستشراق كما يرونها لا تخرج عن كونها نشاطا إنسانيا تحكمه كما غيره نوازع إنسانية وأخلاقية وسياسية ويرى أن الشرق الذي اهتم الغرب بدراسته والتخصص في ثقافته وتراثه، ليس هو الشرق الجغرافي الطبيعي، وإنما هو “الشرق الهوية” وهو محور ما استهدفه علم الاستشراق ومصدر العناية والاهتمام، فهدف الاستشراق هو معرفة “الشرق الهوية والتاريخ” المتمثل في الإسلام والمسلمين. أما المفكر إدوارد سعيد فيعرف الاستشراق بأنه “نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه”. وفي تعريف المستشرق تكتب موسوعة “لاروس” بأنه “العالم المتضلع في معرفة الشرق وثقافته وآدابه”. أما ألبرت ديتريش فيعرف المستشرق بأنه “ذلك الباحث الذي يحاول دراسة الشرق وتفهمه، ولن يتأتي له الوصول إلى نتائج سليمة في هذا المضمار ما لم يتقن لغات الشرق”. ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي “إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الإسلامية”. يصعب تاريخيا إيجاد مرحلة محددة وحاسمة تعلن أن الاستشراق بدأ منها. ولكن الرأي الراجح أن حركة الاستشراق بدأت في زمن انطلاق التبشير الديني المسيحي من أوروبا. عندما ظهرت أولى ترجمات القرآن الكريم سنة 1143م التي قام بها الأب بطرس المبجل. وبعده كان أول مؤسس لكرسي الاستشراق بجامعة أوكسفورد هو رئيس الأساقفة لود وكان ذلك عام 1636م. ولاحقا اهتمت العديد من المحافل الفكرية بالدراسات الشرقية منها جامعة بولونيا في إيطاليا وكذلك جامعة أوكسفورد التي تدرس معظم اللغات الشرقية وكذلك جامعة صلمنكة في إسبانيا 1277م وكذلك جامعة فيينا وجامعة ليدن في هولندا 1575م وفي ألمانيا في جامعات هيدلبرج وكولن وفورزبورخ. إدوارد سعيد الاستشراق اختراع غربي للشرق دوارد سعيد الاستشراق اختراع غربي للشرق توطدت حركة الاستشراق، بعد ترجمة القرآن الكريم لمعظم اللغات الأوروبية وبعده التراث العربي الفلسفي والأدبي والعلمي وصار لها قاعدتها العلمية والتاريخية التي تفاعل معها علماء شرقيون وغربيون، فكانت كما أي حركة فكرية مثار نقاش فكري عنيف. وكما عادة الدول التوسعية وجدت فيها بعض الحكومات الأوروبية مخلبا لها في تحقيق أهداف سياسية عليا تخدم مطامع توسعية اقتصادية استعمارية. فاستغلت بعض الدول حالة الاستشراق كلبوس للحملات التبشيرية التي وجهت لها الكنيسة الأوروبية بأكثر من مرحلة تاريخية. وعلى الطرف المقابل تصدى لها علماء مشرقيون وحتى غربيون مفندين فيها بعض مواقع الخلل فظهرت كتابات لكلا الطرفين. وتكتل المستشرقون في العديد من المدارس الفكرية الاستشراقية التي اتهم بعضها علانية بأنه أداة استعمارية لتحقيق أهداف سياسية. بينما ظهرت مدارس تدعي أنها معنية بالحالة العلمية الحضارية في الشرق. من المفكرين العرب المعاصرين الذين وجهوا انتقادات حادة لحركة الاستشراق كان عمر فروخ ومحمد البهي وأنور عبدالملك الذي نشر مقالا هاما في مجلة “ديوجين” بعنوان “الاستشراق في أزمة” عام 1963، كان لها تأثير كبير في حركة الاستشراق. ومحمود شاكر في مصر كذلك كتب عبدالله العروي في كتابه “الأيديولوجية العربية المعاصرة” انتقد فيه المستشرق غوستاف فون غرينباوم. وفي مرحلة السبعينات نشر كتاب ماركس ونهاية الاستشراق لماكس تيرنر الذي عد الاستشراق أحد أوجه الاستعمار وفي عام 1978 نشر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد كتابه الشهير الاستشراق ومن ثم كتابه التوأم الثقافة والإمبريالية عام 1993. ومن خلال البحث في خارطة تفاعل المثقفين العرب مع حركة الاستشراق بما تحمله من حساسيات فإنها لا تخرج عن أنماط ثلاثة. فريق أول كان يرفض تماما حركة الاستشراق ويتهمها بالعمالة للاستعمار وبأنها أحد وجوهه الناعمة. من هؤلاء الأديب المصري محمود شاكر الذي هاجم الكثير من مفكري الحداثة والاستشراق في مصر خصوصا أمثال الشيخ علي عبدالرازق وطه حسين وتوفيق الحكيم ولويس عوض، وكان يكتب عنهم في الصحافة اليومية واصفا إياهم بأنهم أتباع المستشرقين ثم أصدر بشأنهم كتابا أسماه أباطيل وأسمار. أما الفريق الثاني فكان مجموعة من الباحثين المتأثرين بالثقافة الغربية بحكم دراستهم في دولها أو تأثرهم الحضاري بها، وكانوا يقبلون بكل ما ينشر ضمن حركة الاستشراق الصادرة عنها. والفريق الثالث ذهب منزلة وسطى، فلا هو رفض ما تنشره حركة الاستشراق ولا قبله كاملا دون نقد. ومعظم العاملين في حركة الاستشراق يرون أن هذا المذهب هو الأكثر عقلانية وموضوعية. فحركة الاستشراق كما يرونها لا تخرج عن كونها نشاطا إنسانيا تحكمه كما غيره نوازع إنسانية وأخلاقية وسياسية تخرج به أحيانا عن أهدافه الحضارية، لكن في الوقت ذاته لا يمكن نكران فوائد تحققت من خلالها. الغرب استطاع معرفة الشرق عبر حركة الاستشراق وهذه المعرفة أكسبته عليه سلطة ومن ثم سيطر عليه من أكثر المفكرين العرب الذين ناهضوا حركة الاستشراق، المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي وعلى الرغم من كونه جمع طرفي المعادلة باعتباره عربيا مسيحيا يمتلك ثقافة إسلامية وبالوقت نفسه يعيش في قلب الحضارة الغربية في أميركا ويعمل وينشر بالإنجليزية في جامعاتها، لكنه مع كل ذلك كان صاحب موقف جدلي من مسألة الاستشراق فأصدر كتابه الأشهر “الاستشراق” عام 1978، وبين فيه وجهة نظره في موضوع الاستشراق معتمدا معيار المعرفة والسلطة. ينطلق سعيد في فهم مضمون الاستشرق من خلال مفهوم الخطاب الذي استمده من فكر ميشيل فوكو. يقول في مقدمة كتابه الاستشراق “ما أطرحه هنا هو أننا ما لم نكتنه الاستشراق بوصفه خطابا فلن يكون في وسعنا أبدا أن نفهم هذا الحقل المنظم تنظيما عاليا والذي استطاعت الثقافة الغربية من خلاله أن تعلم عن الشرق بل حتى أن تنتجه سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا في مرحلة ما بعد عصر التنوير”. والخطاب هو التصورات المشكلة لمنظومة معرفية لمجتمع ما في زمن محدد. كما أن الخطاب هو ما تمتلكه من معرفة تجاه الآخر فلا حقيقة إلا ما تراه كذلك. وهذا يوصل إلى مبدأ خطير هو أن المعرفة ستكون سلطة كما عند فوكو. ومن هذه العلاقة خرج إدوارد سعيد بمفهوم أن الغرب استطاع معرفة الشرق عبر حركة الاستشراق وهذه المعرفة أكسبته عليه سلطة ومن ثم سيطر عليه. لذلك ذهب إلى القول “الاستشراق هو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستبنائه وامتلاك السيادة عليه”. وهو “مؤسسة إمبريالية”. وأن “جوهر الاستشراق هو التمييز الذي يستحيل اجتثاثه بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية”. ويضيف سعيد في وصف الاستشراق بأنه “اختراع غربي للشرق”. وأنه “شكل من أشكال العصاب التوهمي وبارنويا ومعرفة من نمط مختلف عن المعرفة التاريخية العادية”. وأنه “نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه”. وأن كل أوروبي كان في كل ما قاله عن الشرق عنصريا وإمبرياليا ومتمركزا بالكامل حول إثنيته الخاصة”. ويشدد على أن “الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب”. كما يقول “الاستشراق في نهاية المطاف رؤيا سياسية للواقع روجت بنيتها للفرق بين الغرب المألوف وبين الشرق الغريب”. نقد لكتاب الاستشراق صادق جلال العظم ومهدي عامل أبرز المفكرين العرب الذين عارضوا فكرة الاستشراق عند إدوارد سعيد صادق جلال العظم ومهدي عامل أبرز المفكرين العرب الذين عارضوا فكرة الاستشراق عند إدوارد سعيد يأخذ البعض على موقف إدوراد سعيد أنه خلط بين مواقف وآراء المستشرقين الأكاديمية وبين آراء بعض الرحالة أو الموظفين في الحكومات الاستعمارية أو أهل الأدب. فيقول المستشرق الفرنسي كلود كوهين في ذلك منتقدا إدوارد سعيد “هو، لا يميز بالشكل الكافي بين الأدبيات الاستشراقية المبتذلة أو الصحافية وبين بحوث العلماء الحقيقيين، لذا فإنه يرتكب أخطاء فاحشة ويقع في ظلم كبير”. ويوافقه على ذلك بيرنارد لويس بقوله إن سعيد “يلجأ أحيانا إلى حشر سلسلة من الكتاب في دائرة الاستشراق دون أن تكون لهم أي علاقة به. نذكر من بيهم أديبين شاتوبريان وجيرار دو نيرفال أو مدراء امبراطوريين كاللورد كرومر أو غيره. لا ريب أن أعمال هؤلاء قد ساهمت في تشكيل المواقف الثقافية الغربية، ولكن لا علاقة لها إطلاقا بالتراث الأكاديمي للاستشراق”. عربيا ظهرت مواقف مناهضة لمذهب سعيد في الاستشراق. منهم المفكر السوري صادق جلال العظم الذي كتب في مقال شهير نشر عام 1981 حمل عنوان “الاستشراق والاستشراق معكوسا” ثم أعيد نشره في كتابه الشهير ذهنية التحريم. يقول المفكر جلال صادق العظم: لو كان صحيحا “أن الشرق الذي يدرسه الاستشراق ليس إلا صورة مشوهة في خيال الغرب وتصورا مزيفا في عقله، كما يكرر إدوارد سعيد في شجب صاحب الصورة والتصور ولومه وتقريعه، أو ليس صحيحا كذلك أن الغرب يكون بفعله هذا قد سلك سلوكا طبيعيا وسويا وفقا للمبدأ العام الذي يقول لنا إدوارد أنه يتحكم بآلية تلقي ثقافة ما لثقافة أخرى غريبة عنها؟ والعظم في هذا الموقف يؤسس على موقف إدوارد سعيد من المفكر الفرنسي لويس ماسينيون الذي اعتبره سعيد بأنه المستشرق الوحيد الذي فهم التراث الشرقي وكتب عنه من الداخل. موقف سعيد من الاستشراق ومن النظرة الفلسفية المتنوعة وشمولها الماركسية تسبب في حراك مع بعض المفكرين الماركسيين. كان أبرزهم اللبناني مهدي عامل الذي وضع بحثا نشر في كتيب بعنوان “هل القلب للشرق والعقل للغرب. ماركس في استشراق إدوارد سعيد نشر عام 1985. ينتقد فيه عامل النظرة الشمولية لمفهوم الخطاب كما ورد عند إدوارد وأنه أي سعيد لا يرى إلا ثقافة واحدة في العالم هي الطاغية ولا يرى نقيضا لها، ويرى عامل أن هذا الفكر مثالي ولا يعترف بتعدد المعرفة والثقافة” كما يضيف منتقدا سعيد بأنه بانتقاده للفكر الاستشراقي ظل أسيرا له فكتب “إن القول بتأكيد مقولة الفكر الاستشراقي التقليدي التي تميز بين روحانية الشرق ومادية الغرب. ما يدل على أن النص السعيدي لم ينجح في الإفلات من منطق الفكر الاستشراقي، بل ظل في نقده له، أسيره؟”.
مشاركة :