فاجأ قرار السلطات التونسية بالسماح باستخدام الأكياس البلاستيكية في نقل الإسمنت، الأوساط المعنية بالحفاظ على البيئة، خاصة وأن القرار يأتي بينما تستعد البلاد لحظر استعمال البلاستيك بداية من العام المقبل، وفي حين أشار البعض إلى شبهات فساد وراء الصفقة تقول السلطات إن القرار ناجم عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد. تونس - استنكر نشطاء البيئة في تونس قرارا رسميا يقضي بعودة استعمال الأكياس البلاستيكية في نقل الإسمنت، وهو القرار الذي جاء في وقت تستعد فيه البلاد لحظر استعمال البلاستيك بداية من العام القادم بهدف التوقي من مخاطر التلوث وحماية البيئة. وعلى غرار ما تعكسه الخطوة من تعارض مع القرارات الحكومية السابقة وتكشف حجم التخبط والارتباك في إدارة أزمات البلاد على جميع الأصعدة، فإنه يشكل انتكاسة في الجهود البيئية ويعتبر بمثابة “عودة إلى الوراء”، حيث يفاقم المخاطر الصحية جراء التهاون مع آفة البلاستيك في البلاد. وكانت الحكومة قد قررت في يناير الماضي ضبط أنواع الأكياس البلاستيكية التي يُمنع إنتاجها وتوريدها وتوزيعها ومسكها بالسوق الداخلية وتشمل: الأكياس المصنوعة من مادة البلاستيك المخصصة للتسوق، والأكياس القابلة للتفكك، والأكياس التي تحتوي على تركيز مرتفع من المعادن الثقيلة والأكياس البلاستيكية مجهولة المصدر. لكن العودة عن القرار بإباحة استعمال البلاستيك في مصانع الإسمنت أثار مخاوف من تداعيات وخيمة على البيئة في الوقت الذي تكافح فيه البلاد للحد من مظاهر التلوث، أمام تساؤلات عن دوافع هذا القرار والجهات التي تقف وراءه. وفيما اتهمت بعض الأصوات المعارضة الحكومة بمحاباة رجال الأعمال وشبهة فساد اقتضت تمرير هذا القرار، إلا أن وزير الصناعة والمؤسّسات الصغرى والمتوسّطة صالح بن يوسف أرجع ذلك إلى أسباب اقتصادية أجبرت الحكومة على العودة عن قرارها السابق، حيث إن إضافة الأكياس البلاستيكية إلى الأكياس الورقية في تعبئة مادة الإسمنت سيقلص من قيمة الخسائر التي تتكبدها الصناعة. صالح بن يوسف: القرار يوفير ما يناهز 7 ملايين دولار من العملة الصعبة صالح بن يوسف: القرار يوفير ما يناهز 7 ملايين دولار من العملة الصعبة ونقلت وكالة الأنباء الرسمية عن بن يوسف قوله إن “تعويض 30 في المئة من أكياس الورق المقوّى المستعملة في تعبئة الإسمنت بأخرى من البولي بروبيلين، سيمكن تونس، من توفير ما يناهز 20 مليون دينار (7 ملايين دولار) من العملة الصعبة بفضل التقليص من الواردات من عجين الورق المقوّى”. وأضاف بن يوسف، أنّ “الأمر يتعلّق، أيضا، بإعادة التموقع على مستوى السّوق الليبيّة عبر الضغط على كلفة أكياس الإسمنت ما من شأنه أن يدعم القدرة التنافسيّة لمنتوجنا مقارنة بالمنافسين من الأتراك على مستوى هذه السوق”. وتعليقا على ما راج من انتقادات حول قرار استعمال أكياس البلاستيك لتعبئة الإسمنت، أشار بن يوسف إلى أن “القرار تمّ على إثر إجراء دراسات واستشارات مع المهنيين في القطاع، الذين سيكون كامل الخيار لهم في استعمال الأكياس من الورق المقوّى أو الأكياس من البولي بروبيلين”. واعتبرت جمعيات البيئة في تونس القرار بمثابة نسف لكل جهود مكافحة التلوث والحد من مخاطر استعمال البلاستيك، وهددت بعض الجمعيات باللجوء إلى القضاء من أجل منع تطبيق القرار حماية للبيئة من النفايات البلاستيكية. ويلاحظ الخبراء تهاونا حكوميا مع معضلة التلوث في البلد، حيث يأتي الملف البيئي في أخر سلم الأولويات. ويرى هؤلاء أن انشغال الحكومات المتعاقبة في ما بعد ثورة يناير بالصراع على السلطة وتصفية الحسابات ثم التركيز على الأزمة الاقتصادية، قاد إلى إهمال هذه المعضلة ما يهدد بمخاطر بيئية إضافية محتملة. وقال رضا الطبوبي رئيس الشبكة الوطنية للجمعيات البيئية “فايقين لبيئتنا” لـ”العرب”، إن “الحكومات المتعاقبة بعد الثورة لم تعط لموضوع انتشار المواد البلاستيكية الأهمية المستحقة.. وحتى إن تم استصدار تشريعات في الغرض فإنها بقيت نظرية في مجملها ولم تطبق لسببين؛ أحدها ضعف هذه الحكومات وثانيهما خضوعها لقوى الضغط التي تسيطر على هذا القطاع”. وندّد بالمغالطة عن واقع آفة البلاستيك في تونس، وحسب رأيه فإن جهات تمسك برأس المال تقوم بدراسات علمية عن واقع السوق لتمرير خياراتها وهي تدرك جيدا أن تنفيذ خططها لن يلقى كثيرا من الصد خصوصا وأن السياسيين يستفيدون من هكذا خيارات بل ويقومون بأعمال جبارة لإضعاف المجتمع المدني كعدم تمكين الجمعيات من التمويل العمومي. استعمال الأكياس البلاستيكية في صناعة الإسمنت كارثة بيئية خطيرة استعمال الأكياس البلاستيكية في صناعة الإسمنت كارثة بيئية خطيرة وعلى الرغم من التضييق والصعوبات التي تواجه المجتمع المدني في هذا المجال، إلا أنه ملتزم بمقاومة القرارات الحكومية غير الصائبة وتعرض حياة وصحة التونسيين إلى الخطر. وأكد الطبوبي أن الجمعية البيئية لن تصمت إزاء التعدي الصارخ على البيئة، لافتا إلى أنها بصدد الإعداد لحملة مضادة على صفحات التواصل الاجتماعي للتصدي خاصة لمسألة البلاستيك في الصناعات الإسمنتية”. ويتسق رأي الطبوبي مع رأي الناشط البيئي عبدالمجيد دبار، الذي يرى أن المجتمع المدني غير مطالب بنقد نقائص الأداء الحكومي بل هو بمثابة “قوة اقتراح ومدعو إلى رصد حلول عاجلة للبيئة”. وقال دبار في تصريح لـ”العرب”، “في الوقت الذي نسعى فيه لإنهاء استعمال البلاستيك تدريجيا، باغتتنا وزارة الصناعة بالعودة عن قرارها”. ووصف استعمال الأكياس البلاستيكية في صناعة الإسمنت بـ”الكارثة البيئية الخطيرة”. ودعا دبار إلى ضرورة اتخاذ قرارات صارمة لمنع هذا القرار. لافتا إلى مواصلة المجتمع المدني ضغطه على الحكومة لثنيها عن القرار توقيا من مشاكل بيئية جديدة. وفيما تتصاعد المخاوف من إهمال البيئة نتيجة الضغوط الاقتصادية، دون مراعاة تداعيات مثل هذه القرارات على صحة المواطن إضافة إلى إضرارها على الثروة النباتية والحيوانية، يطالب رأي آخر بضرورة التأني في حظر نهائي لاستعمال البلاستيك وتفكير في مصير عدد كبير من الصناعيين الذي يعد البلاستيك مصدر رزقهم الوحيد، وأيضا ضرورة الاستعداد بتوفير الآلات والمواد الأولية الجديدة لصناعة الأكياس الملائمة للطبيعة. الحكومات المتعاقبة لم تعط لموضوع انتشار المواد البلاستيكية الأهمية المستحقة الحكومات المتعاقبة لم تعط لموضوع انتشار المواد البلاستيكية الأهمية المستحقة وأوضح فيصل البرادعي، رئيس الغرفة الوطنية لمنتجي البلاستيك لـ”العرب” أنه بدل إغلاق نهائي لمصانع البلاستيك التي تبلغ 120 مصنعا حسب تقديره، فإن الأولوية في هذه المرحلة هو تأهيل الصناعيين للتفاعل مع المنظومة البيئية الجديدة، والتي تستوجب تغيير نمط الأكياس البلاستيكية إلى نمط صديق للبيئة وقابلة للتحلل البيولوجي. ويلفت أن “تصنيع أكياس صديقة للبيئة يتطلب التزوّد بآلات جديدة وإمدادات مالية”. واستنادا إلى دراسات وزارة البيئة التي قامت بتشخيص الوضع العام سواء البيئي أو الاجتماعي، فإنه من الصعب التطبيق التام لهذا القرار دون مراعاة ظروف العمال الصناعيين في هذا المجال، بموازاة التفكير بالمخاطر البيئية. وحسب أرقام حكومية يشغل القطاع حوالي 1000 شخص في قرابة 46 مصنعا. ويستنتج الخبراء أن الملف الاجتماعي على غرار القرارات السياسية المتخذة، فهو حجر عثرة في جهود حماية البيئة بالبلد. وللتلوث البلاستيكي مخاطر عديدة، فهو يؤثر في الشوارع والتربة والبحر والأغذية، وتنتقل أضراره إلى الأراضي الزراعية حين يختلط مع التربة فيؤثر بذلك في مردوديتها. كما أن بعض المواشي كالغنم تتناول القطع البلاستيكية ضمن ما ترعاه. فيؤثر ذلك في صحة الماشية ويقلل من جودة لحمها أو قيمة حليبها. ويتسبب البلاستيك أيضا في تلويث الهواء، إذ أن البعض يعمد إلى إحراق أماكن جمع القمامة فتنجم عن ذلك أدخنة سوداء ملوثة للهواء. ويؤثر هذا سلبا على صحة السكان المجاورين لمصبات النفايات. وتتركز غالبية هؤلاء السكان في أحياء وتجمعات فقيرة. تصنيع أكياس صديقة للبيئة يتطلب التزوّد بآلات جديدة وإمدادات مالية تصنيع أكياس صديقة للبيئة يتطلب التزوّد بآلات جديدة وإمدادات مالية وتعد تونس من الدول التي تلقي بكميات كبيرة من المواد البلاستيكية في الشواطئ والسواحل، ويشير تقرير أصدره الصندوق العالمي للطبيعة في وقت سابق إلى أن البحر المتوسط، الذي يشكل حوضا مائيّا شبه مغلق تبلغ مساحته 1 في المئة من مجموع مساحات البحار، بات ترتيبه سادس منطقة بحرية تُوجَد فيها النفايات البلاستيكية؛ إذ يتركز فيه 7 في المئة من مجموع جزيئات البلاستيك في العالم. وتفيد الإحصائيات بأنه يقع سنويا في تونس استعمال ما يفوق مليون كيس بلاستيكي، وهي غير قابلة للتحلل العضوي. ويشير التقرير إلى أن صناعة المنتجات البلاستيكية مهمة نسبيا مقارنة بالدول الأخرى في البحر المتوسط وإلى أن البلاد التونسية تعد رابع أكبر مستهلك للمنتجات البلاستيكية على المستوى الفردي في المنطقة. ففي عام 2018، أنتجت تونس 0.5 مليون طن من النفايات البلاستيكية منها 12 في المئة تم جمعها فيما لم تجر معالجة البقية ووقع إرسالها إلى مصبات النفايات أو رميها في الطبيعة. وبالتالي تم إلقاء 9.5 آلاف طن من النفايات البلاستيكية في البحر المتوسط عام 2018. وحذر تقرير الصندوق العالمي للطبيعة أن التلوث البلاستيكي يكلف الدولة التونسية خسائر بما يقارب نصف الموازنة، بما قدره 20 مليون دينار (حوالي 7 ملايين دولار) خاصة في مجالات النقل البحري والصيد البحري والسياحة.
مشاركة :