البيانان الصادران عن رئيس مجلس النواب والمجلس الرئاسي الليبيين يبقيان رغم كل الصدى الواسع الذي أحدثاه، مجرد إعلان نوايا غير متطابقة في جوانب مهمة منها، بينما لا يمكن التعويل إلا على اتفاق رسمي معتمد وموقع من الفرقاء وبحضور الفاعلين الإقليميين والدوليين، الذين يوفرون ضمانة احترامه وتنفيذه على أرض الواقع، وفي مقدمتهم ممثلو الولايات المتحدة والأمم المتحدة. جاء البيانان في ظل معطيات عدّة من بينها، أولا: حرب الإطاحة بفايز السراج من قبل المقربين منه، وخاصة المنحدرين من مدينة مصراتة والمستقوين بميليشياتها، والذين دعوا منذ أيام إلى التظاهر ضدّه، متهمين إياه بالتورط في الفساد والوقوف وراء الفشل الذريع لدواليب المؤسسات في طرابلس. ثانيا: استمرار تدفق المرتزقة على غرب البلاد بتمويل قطري واستقطاب وتجنيد وتدريب من تركيا، وتحت أنظار العالم وخاصة الولايات المتحدة، التي يرى رئيسها دونالد ترامب أن الدفع بآلاف المرتزقة إلى جانب قوات أردوغان وشركاته الأمنية الإخوانية يمكن أن يلجم محاولات التوسع الروسي. ثالثا: استمرار الوضع على جموده الميداني في منطقة سرت والجفرة، بعد أن حسم الموقف المصري أمر الخط الأحمر وأعلن استعداد قواته للتدخل المباشر لصدّ أيّ محاولة تركية للاقتراب منه، كما تمّ تطويق المنطقة بإمكانيات بشرية وعسكرية غير مسبوقة من قبل قيادة الجيش، بما يعطيها إمكانية سحق جماعات المرتزقة والإرهابيين التابعة للحكومة الخاضعة لإمرة غرفة العمليات التركية في مساحات مفتوحة ليست بها أيّ تضاريس يحتمي وراءها المهاجمون. تركيا وقطر ترفضان من الأساس الطرح الأميركي بجعل سرت عاصمة مؤقتة للبلاد، وهو ما تحدث عنه بيان رئيس البرلمان ولم يذكره بيان السراج، وتريان في ذلك انتصارا للجيش رابعا: لا يمكن فصل الوضع في ليبيا عن الوضع في شرق المتوسط، حيث يواجه أردوغان تجمعا استثنائيا لأعدائه المعلنين وخاصة اليونان وقبرص ومصر، بالإضافة إلى الموقف الفرنسي الحاد والتضامن الأوروبي مع أثينا ونيقوسيا، إضافة إلى الموقف الأميركي الذي يسير في الاتجاه ذاته، وهو متأثر في جانب كبير منه بمواقف محور الاعتدال العربي والاتحاد الأوروبي وبضغوط اللوبي اليوناني المؤثر في قرارات واشنطن، دون أن ننسى أو نتجاهل مستجدات التوازنات الإقليمية بعد اتفاقية السلام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، والتي لا يمكن أن تصبّ في مصلحة النظام التركي، علما وأن تل أبيب نفسها جزء من الصراع حول غاز المتوسط، ولا تريد للأطماع التركية أن تقترب منه. الاتفاق المعلن بين صالح والسراج قد يبقى حبرا على ورق، إذا لم يجد إصرارا أميركيّا على تنفيذه، فأردوغان هو مخلب قط واشنطن حاليا في المنطقة، وراعي مصالحها، والمستعدّ لتقاسم الغنائم معها، وهذه المرة يعدّ الرئيس التركي خطة لوضع يده على ليبيا وخاصة على الوسط والجنوب، وهو لا يريد الخروج منها كما يعتقد البعض، ولن يقبل بذلك. وعندما زار وزيرا الدفاع التركي والقطري طرابلس مؤخرا، كانت معهما مشاريع عدة لفائدة أنقرة، من بينها قاعدة بحرية في مصراتة، تراها مصر خطرا على أمنها القومي، وتوسيع حضورها في قاعدة الوطية الجوية، والسيطرة على الموانئ البحرية والمطارات، وتشكيل جيش “نظامي” من مسلحي الميليشيات وأبناء القبائل. وفي ذلك محاولة للغمز من قناة مصر التي قالت إنها مستعدّة لتدريب أبناء القبائل، ولكن القبائل التي تحاول تركيا استقطابها هي قبائل المنطقة الغربية من عرب وأمازيغ، وكذلك المنطقة الجنوبية من تبو وطوارق وعرب، بعد فتح نافذة من الجنوب عبر النيجر التي ارتبطت معها مؤخرا باتفاقية عسكرية، بعض جوانبها بقيت قيد السرية المطلقة. وقد عرض وزير الدفاع القطري رؤيته في هذا الشأن، وأكد أن بلاده مستعدة لفتح باب الحوار مع القبائل سرا أو علنا والتأثير عليها، خصوصا وأن لها سوابق في مدّ جسور التواصل مع التبو والطوارق والأمازيغ وبعض القبائل العربية، علما أن التعامل معها مرفوض من قبائل أخرى لا تزال موالية للنظام السابق، وتلك تمّ التخطيط لضربها من الداخل عبر بعض الشخصيات التي يتم استدراجها إلى الخارج، والإغداق عليها لتكون في خدمة المشروع الجديد، الذي لا يشترط الولاء للوفاق بقدر ما يعتمد على مبدأ العداء للجيش. كما أن تركيا وقطر ترفضان من الأساس الطرح الأميركي بجعل سرت عاصمة مؤقتة للبلاد، وهو ما تحدث عنه بيان رئيس البرلمان ولم يذكره بيان السراج، وتريان في ذلك انتصارا للجيش، لكنهما تتبنيان وبقوة إعلان سرت والجفرة منطقة معزولة السلاح، وتعتبرانه انتصارا لحكومة الوفاق، ومدخلا مستقبليا للهجوم على الهلال النفطي وحقول الواحات وغيرها، والسير نحو الشرق. غير أن الجانب المصري منتبه إلى هذه المسألة، وهو وإن رحب ببياني السراج وصالح، إلا أنه متمسك برفض انسحاب الجيش من الخط الأحمر، وينتظر أن يتبين من الضمانات الدولية التي يمكن أن تجعله يوافق، وعلى رأسها تنفيذ إعلان القاهرة باعتباره امتدادا لمخرجات برلين، بما يعنيه من تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية، والبدء في حل الميليشيات وجمع السلاح، وقبل كل ذلك إخراج القوات التركية والمرتزقة الأجانب من البلاد. لا يمكن فصل الوضع في ليبيا عن الوضع في شرق المتوسط، حيث يواجه أردوغان تجمعا استثنائيا لأعدائه المعلنين وخاصة اليونان وقبرص ومصر، بالإضافة إلى الموقف الفرنسي الحاد والتضامن الأوروبي مع أثينا ونيقوسيا اكتفى القائد العام للجيش المشير خليفة حفتر بالصمت، والمقربون منه يؤكدون أنه يتابع المستجدات عن كثب، ويعرف طبيعة المجريات التي تم التخطيط لها في طرابلس عند زيارة وزيري الدفاع القطري والتركي، كما يعلم أن هناك ألاعيب يمارسها أهل السياسة يجب ألا تمر على العسكريين بسهولة. الموضوع ليس سهلا إلى درجة إخراج حل له في بيانين منفصلين كانا مردّا وردّ فعل، كما أنه ينتظر اللحظة التي يقع فيها الطرف المقابل في الخط، وهي واردة جدا، فالسراج رغم أنه رئيس للمجلس الرئاسي إلا أنه معرض للإطاحة به في أيّ وقت، وإن لم تكن الإطاحة بشخصه فبكلمته، فالميليشيات لها حسابات أخرى، وكذلك المخطط التركي القطري قد يتجاوزه إلى غيره، إذا لم ينفذه بحذافيره. هل سيتجه مجلس النواب والمجلس الرئاسي إلى مؤتمر دولي للتوقيع على اتفاقية جديدة انطلاقا مما ورد في بياني السراج وصالح؟ هذا الأمر قد يكون بداية الحل في حال التوصل إليه، والاتفاق على تنفيذه برعاية واشنطن والأمم المتحدة، والتنصيص عليه في مجلس الأمن، وإرفاقه بملحق قانوني إلزامي لملاحقة من يتعمد خرقه أمام القضاء الدولي، وأن يكون أول بنوده إخراج القوات التركية والمرتزقة وحل الميليشيات، وكذلك تشكيل منظومة عمل سياسي جديدة من خارج الصف الحالي الذي لا ضمان لبقائه إلا بالاستمرار في الأزمة.
مشاركة :