بغداد – تتحول الطقوس الشيعية الخاصة بإحياء ذكرى العاشر من محرم، وما يليها من شعائر حتى أربعينية تأبين الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، إلى مناسبة سياسية بامتياز في العراق، إذ استغلها النشطاء هذا العام لتجديد حركة الاحتجاج التي انطلقت في أكتوبر 2019، وقادت نحو تغييرات عميقة في بنية العملية السياسية. ومنذ دخول شهر محرم، المقدس بشدة لدى الشيعة الاثني عشرية في العراق والعالم حيث شهد مقتل الإمام الحسين بن علي، تعج مجالس الرثاء والاستذكار بقصائد وأناشيد تتضمن انتقادات شديد اللهجة للأحزاب الشيعية الحاكمة، مستلهمة مفردات حضرت بقوة في ساحات الاحتجاج خلال الأشهر الماضية. وتُنظم هذه المجالس في مدن تتمتع بقدسية كبيرة داخل الأوساط الشيعية مثل النجف التي تحتضن مرقد الإمام علي بن أبي طالب وكربلاء حيث يرقد الإمام الحسين بن علي، وهي في الوقت نفسه معاقل لأبرز أحزاب الإسلام السياسي الشيعي مثل حزب الدعوة الإسلامية بزعامة نوري المالكي والمجلس الإسلامي الأعلى بزعامة همام حمودي وحزب الفضيلة الذي يرعاه رجل الدين محمد اليعقوبي. واعتادت هذه المجالس على توجيه الانتقادات للطبقة السياسية خلال الأعوام الماضية، لكن شدة النقد ومفرداته اختلفتا بشدة هذا العام؛ حيث وصل الأمر بأحد المنشدين إلى حد مطالبةِ -عبر قصيدة انتشرت كالنار في الهشيم داخل الأوساط الشعبية الشيعية- المعممين الشيعة، في إشارة إلى رجال الدين، بعدم التدخل في الشؤون السياسية، واصفا إياهم بمصدر التخلف، مقارنة بأوروبا التي يقتصر دور رجال الدين فيها على الكنيسة. ويؤكد هذا المنشد، الذي كان يذيع قصيدته بصوت مميز وسط مئات المجتمعين وأمام عشرات الكاميرات، أنه شيعي، ولكن هذا لا يمعنه من توجيه النقد الشديد للأحزاب الشيعية التي أمعنت في سرقة أموال الدولة وتبديد مواردها، مصرة على أن توالي إيران وتراعي مصالحها بدلا من مصالح العراق وسكانه، الذين يشكل الشيعة الاثني عشرية غالبيتهم. ويستعرض المنشد أزمات البلاد الاقتصادية والمالية والصحية، حيث البطالة الشائعة وتدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والنقص الهائل في تجهيز الكهرباء، مقارنا ذلك بحال أوروبا التي فصلت الدين عن شؤون الدولة، لتضمن تحقيق الرخاء لشعوبها. وانتقدت قصائد أخرى استخدام الحكومة السابقة للقناصة من أجل استهداف متظاهري أكتوبر في بغداد والمحافظات، حيث قتلت المئات منهم وجرحت الآلاف، متسببة للكثير منهم في إعاقات دائمة. وذهب منشدون آخرون إلى التعريض بشكل غير مباشر بالتدخلات الخارجية التي تتم بذرائع مذهبية واهية، في إشارة إلى إيران، ما تسبب في توريط شيعة العراق في نزاعات دموية، أدت إلى مقتل مئات الشبان، فضلا عن التخلف الشديد في الواقع الخدمي والصحي والتعليمي داخل المناطق الشيعية. وانتقد منشدون آخرون، بشكل غير مباشر، استخدام ميليشيات عراقية شيعية موالية لإيران، الذرائع المذهبية للتمدد داخل مؤسسات الدولة أو فرض أنماط معينة من السلوكيات داخل المدن الشيعية أو رفع صور لرموز دينية وعسكرية غير عراقية في مناطق عراقية. Thumbnail ولم يقتصر النقد الشديد للأحزاب الشيعية ودورها في تخريب الدولة العراقية على طقس المجالس الحسينية، بل تعداه إلى المسيرات الراجلة التي تُنظم للطواف في شوارع كربلاء والنجف، استذكارا لتفاصيل واقعة الطف، التي استشهد خلالها الإمام الحسين، حيث امتاز هذا الطقس في شهر محرم الجاري بجرأة غير معهودة، وصلت إلى حد توجيه الشتائم لإيران علنا قرب ضريح ثاني أئمة الشيعة الاثني عشرية في العراق والعالم. ويتوجه ملايين الشيعة من داخل العراق وخارجه سنويا إلى مدينة كربلاء، سيرا على الأقدام، لإحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين في العاشر من شهر محرم ثم أربعينية تأبينه في العشرين من صفر. ورغم إغلاق الحدود هذا العام بسبب جائحة كورونا، ومنع زوار بلدان عدة، بينها إيران، من المشاركة في طقوس محرم، إلا أن الحضور الداخلي كان أكثر من كاف للفت الأنظار، حيث كان واضحا دور الزخم الاحتجاجي السياسي في التحفيز على مشاركة الآلاف من الشبان. وفي إحدى المسيرات الحسينية التي نُظمت للتوجه نحو مرقد الإمام الحسين داخل مدينة كربلاء، رفع المشاركون صور الناشط المدني الشهير صفاء السراي، الذي كان من أوائل الذين سقطوا برصاص قوات الأمن لدى انطلاق احتجاجات أكتوبر 2019 في ساحة التحرير ببغداد، مرددين شعارات تصف جميع الساسة العراقيين الخاضعين لإيران بغير الوطنيين. ويشكل صفاء السراي أيقونة لحركة الاحتجاج العراقية منذ سقوطه في ساحة التحرير، وعادة ما يرفع المتظاهرون الشيعة صوره للتنديد بالدور الإيراني السلبي في بلادهم. ويقول مراقبون إن شعائر محرم هذا العام تكشف عن عمق التحول السلبي الكبير في المزاج الشيعي العراقي إزاء إيران وأتباعها في العراق، تجسيدا لشعار “نريد وطنا” الذي وسم احتجاجات أكتوبر، وسلط الضوء على مدى رغبة العراقيين في استعادة وطنهم من الهيمنة والنفوذ الإيرانيين. ويعتقد المراقبون أن أجواء مثل هذه قد تكون مثالية لتعزيز الروح الوطنية لدى العراقيين، بما يسمح لمشاريع سياسية جديد بالانطلاق، استلهاما لهذا التحول. ولا يتوقف المتظاهرون والمشاركون في إحياء طقوس عاشوراء عن إرسال إشارات بشأن استعدادهم لدعم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في حال قرر مواجهة الأحزاب والميليشيات العراقية التابعة لإيران. ويشير المزج المكثف هذا العام بين الشعارات الطقوسية والشعارات السياسية خلال المسيرات الحسينية إلى استعداد واسع داخل الأوساط الشيعية لدعم أي مشروع يستهدف تحجيم دور أحزاب الإسلام السياسي، بعد سلاسل فشلها في إدارة البلاد منذ 2003، وسط تحذيرات من أن يضيّع الكاظمي هذه الفرصة. ويرى مراقبون أن المحتجين العراقيين، ومعظمهم من الشبان الشيعة في مدن وسط العراق وجنوبه، يجردون الأحزاب والميليشيات الطائفية من سلاح الشعائر الحسينية، الذي طالما استخدم للتغطية على مشاريع سياسية مشبوهة.
مشاركة :