تكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل الحكومة العراقية، وما صحبه من معوقات سياسية، لم يؤشر فقط على أثر احتجاجات الشباب العراقي من أكتوبر 2019، بل دل أيضا على بدء فقدان الأحزاب الشيعية السلطة في بغداد. صعود الكاظمي وما قدمه من دلائل على اعتزامه محاربة الميليشيات الموالية لإيران ومنع ظواهر السلاح المنفلت، هو تعبير عن بداية تراجع نفوذ الحركات الإسلامية في العراق. تمر التجربة السياسية الشيعية في العراق بواحدة من أسوأ فتراتها، إذ توشك للمرة الأولى منذ نحو 17 عاما، على خسارة نفوذها الذي بنتْهُ على خطاب إسلامي متشدد، يستمد مفرداته من الحالة الإيرانية، التي تحولت إلى صداع مزمن في المنطقة. ولأول مرة، يجمع الساسة الشيعة على أن عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي خرجت من دائرة نفوذ الإسلام السياسي في العراق، بعدما تحولت معادلة صناعة السلطة في بغداد من ثلاثية تشارك فيها المرجعية الشيعية والولايات المتحدة وإيران، إلى رباعية، بدخول الجمهور المنتفض على خط التأثير الفاعل. ولأول مرة أيضا، تتراجع الأطراف الشيعية الراديكالية مثل حزب الدعوة الإسلامية بزعامة نوري المالكي وتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والمجلس الأعلى بزعامة همام حمودي خطوة إلى الخلف، في عملية اختيار رئيس الحكومة، لتفسح المجال لشخصية توضع في خانة الليبرالية الشيعية كي تتصدر وتقود العملية السياسية، بعد عقد ونيف من هيمنة الشخصيات ذات الخلفيات الإسلامية على مقاليد الحكم، بدءا من إبراهيم الجعفري، ومرورا بنوري المالكي وحيدر العبادي، وانتهاء بعادل عبدالمهدي. لكن النموذج الجديد الذي يمثله الكاظمي، لا يمثل نتاجا لمراجعة شيعية لتجربة الإسلام السياسي في العراق، بل نتيجة لمتغيرات ثلاثة. المتغير الأول فرضته ظروف الحركة الاحتجاجية الشعبية التي زلزلت مراكز القوى التقليدية منذ أكتوبر الماضي، والثاني يتمثل في تولي بعض صقور الإدارة الأميركية الملف العراقي بعد حقبة الرئيس السابق باراك أوباما الباردة، والثالث يتعلق بالانكفاء الإيراني الداخلي بسبب العقوبات الأميركية ذات الطابع الاقتصادي، التي عمقت أثرها جائحة كورونا. وبدا أن التيار الشيعي الراديكالي، الذي يمثله تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، ذي العلاقة الوطيدة بإيران، يكابر وهو يرقب صعود مشروع الكاظمي، مؤيدا بزخم خارجي تقوده الولايات المتحدة، وداخلي يمثله رئيس البرلمان السني محمد الحلبوسي والزعيم الكردي المخضرم مسعود بارزاني. أحزاب الإسلام السياسي الشيعي تتمنى فشل الكاظمي، كي تبرهن أن الخلل لا يكمن في منهجها بل في البيئة السياسية ولا يتصل الحلبوسي والبارزاني بتجربة الإسلام السياسي في الحكم، إلا بما تقتضيه ضرورات التحالف والشراكات التكتيكية، إذ ينتهج الأول خطا براغماتيا في توسيع قاعدته الشعبية وتوسيع مساحة نفوذه، فيما يعتمد الثاني على إرث عشائري ونزعة قومية لا تتحسس من الليبرالية السياسية. وربما هذا ما يفسر مسارعة الزعيميْن إلى الإعلان عن تأييد الكاظمي قبل تكليفه رسميا، تناغما مع الرغبة الأميركية، إذ تشير مصادر دبلوماسية إلى أن واشنطن تواصلت مباشرة مع الحلبوسي وبارزاني لحثهما على دعم رئيس الوزراء الجديد. ولعل أبرز ملامح الصعود الصاروخي للكاظمي على أنقاض تجربة الإسلام السياسي الشيعي، تمثل في انتزاع حقيبة الداخلية التي بقيت لسنوات تحت هيمنة منظمة بدر التي تأسست في إيران لقتال النظام العراقي خلال حرب الثمانينات. ولأول مرة، يتولى هذه الحقيبة ضابط تدرج في مدارس العراق العسكرية خلال حقبة نظام صدام حسين، وحاز رتبة فريق ركن، بعدما تعاقبت على إدارة هذه الحقيبة شخصيات سياسية بخلفيات ميليشياوية مثل باقر صولاغ ومحمد الغبان وقاسم الأعرجي، وجميعهم ينحدرون من منظمة بدر، التي مثلت لسنوات أهم أذرع إيران في العراق. وفي حسابات المراقبين، فإن أفضل ما تتمناه أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، يتمثل في فشل الكاظمي خلال ولايته المحفوفة بمخاطر أزمة انهيار أسعار النفط وجائحة كورونا وغيرها، كي تبرهن أن الخلل لا يكمن في منهجها بالذات، وإنما في البيئة السياسية العراقية المليئة بالتناقضات والمنغصات. وخلال الأيام العشرة الأولى من عمر حكومة الكاظمي، حدثت ثلاث عمليات أمنية وُصفت بالمزلزلة، إذ طالت عصابات جريمة منظمة تتصل بميليشيات شيعية توالي المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي. وتُتهم هذه العصابات بالسيطرة على تجارة المشروبات الروحية عبر مسالك غير قانونية وفرض الأتاوات على تجار ومقاولين في معاقل شيعية داخل مدينة بغداد، وشرقها في محافظة ديالى، حيث تمر جميع البضائع المستوردة من تركيا عبر المنطقة الكردية، وصولا إلى العاصمة العراقية. ومنذ عام 2018، تتخذ هذه العصابات من أسماء ميليشيات بارزة موالية لإيران، غطاء لتحركاتها، ما يمنحها حصانة كاملة من الملاحقة الأمنية والقضائية. وتمثل هذه العصابات خط الاقتصاد البديل لتمويل أنشطة الجماعات العراقية ذات الخلفيات الإسلامية، إذ أن خط التمويل الرئيسي هو عبارة عن حصص وعمولات مالية كبيرة جدا يدفعها تجار ومستثمرون يحصلون على عقود رسمية لتنفيذ مشاريع لصالح الحكومة. ويقول مراقبون إن معظم الأحزاب والتيارات والفصائل العراقية الشيعية، ذات الخلفيات الدينية، الموالية لإيران، تتحرك ضمن أحد هذين الخطين أو كلاهما، لضمان التمويل الذي يبقيها ضمن دائرة المنافسة السياسية من جهة، وتعظيم الموارد المخصصة لتعظيم رفاهية قياداتها. ومع النقص الهائل في عوائد البلاد المالية بسبب تدني أسعار النفط والنظرة التشاؤمية الدولية لمستويات النمو المتوقعة، فإن خط التمويل الرسمي لجماعات الإسلام السياسي الشيعي في العراق مهدد بالتوقف. ويمكن أن يصل حال هذه الجماعات إلى الاختناق، في حال مضت حكومة الكاظمي في خطتها لتجفيف منابع الاقتصاد البديل، ما يضع هذه الجماعات أمام خيارين؛ الأول هو المواجهة العسكرية مع الدولة استلهاما لنموذج تنظيم داعش في اقتطاع جزء من مناطق العراق لإدارته بهدف استمرار موارد تمويلها، أو الموافقة على التخلي عن الكثير من مظاهر قوتها والتنازل لصالح فرض القانون والتضحية بجزء من أتابعها وقادتها، للبقاء ضمن جسد الدولة بانتظار فرصة مناسبة. ولا يشك المراقبون في أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي والسني على حد سواء، ستواصل مراقبة المشهد، بانتظار فرصة مناسبة للانقضاض عليه واستعادة السلطة مباشرة. ويقول مراقبون إن الكاظمي الذي يتبع سياسة الاحتواء الهادئ للخطوط الإيرانية الكبيرة المتداخلة في الشأن الداخلي العراقي، قد لا يضطر إلى الانتظار طويلا لتوجيه ضربات أكبر، في حال بدا الضعف في وقت أكبر على هذه الجماعات. لكن المضي في هذا النهج المتفائل، أمر محفوف بمخاطر كبيرة في العراق، الذي ربما لن تتورع إيران عن تفجير مواجهة داخلية كبيرة على أراضيه، في حال تأكدت أن آفاق التفاهم مع الكاظمي، المؤيّد أميركيا، ليست واعدة.
مشاركة :