رواية جارية تناقش موضوعاً انسانياً غاية في الاهمية والحساسية المتعلقة ببحث الانسان عن ذاته المفقودة في هذه الحياة وعن هويته المسلوبة في أعماق نفسه المحطمة.. عندما وصلتني الدعوة من أسرة الادباء والكتاب البحرينيين لحضور الاحتفاء بالروائية البحرينية منيرة سوار بمناسبة فوز روايتها جارية بالجائزة الاولى في مسابقة كتارا للرواية العربية.. أصبت بانبهار شديد والذي أخذ يلسع وهجه جوارحي متعجباً ومتسائلا: كيف لرواية بحرينية أن تطلع هذه الطلعة المفاجئة والتي لم اشهد لها مثيلاً منذ سنين طوال جدا وانا أتابع الأدب البحريني.. وكان منبع انبهاري الذي طفا على سطح تفكيري وشغل وجداني هو في عدة اسباب وهي: ١) ما هي هذه الجائزة كتارا والتي توجت بها الروائية منيرة سوار شرف نيلها. ٢) من هي هذه الروائية منيرة سوار التي قفزت عالياً جدا في سماء الادب العربي فجأة ومن دون مقدمات مسبقة، لتسطر هذه الرواية الفائزة. ٣) ما هي أبعاد وأسرار هذه الرواية التي استحقت المركز الاول على مستوى الرواية العربية. لن أطيل كثيراً في توضيح هذه النقاط حيث المجال لا يحتمل إلا لإجابات مبتسرة حيث ان كل واحدة منها تحتاج الى صفحات للاستطراد فيها.. ولكن اكتفي ببعض المعلومات الهامة عن كل نقطة، مبتدأً بتعريف جائزة كتارا وهي عبارة عن مسابقة لكتابة الرواية على مستوى الوطن العربي، وهي جائزة حديثة جدا أسست في عام 2014م وتصدر من المؤسسة العامة للحي الثقافي بدولة قطر الشقيقة، ومقدار جائزتها ستون الف دولار.. اما بالنسبة للروائية منيرة سوار فهي من مواليد 1975م وكاتبة لروايتين سابقتين وهما نساء المتعة و حسين المسنجر وكتاب مترجم المربية المثالية وهي ابنة الصحفي المعروف عقيل سوار.. وقد استفادت من الورشة التدريبية التي اقامتها وزارة الثقافة من ضمن فعاليات البحرين عاصمة الثقافة في عام 2012م والمعروفة باسم محترف نجوى بركات لفن كتابة الرواية ، والتي تحسب للشيخة مي الخليفة وزيرة الثقافة الفضل في رعايتها للورشة ودعمها وتشجيعها للمواهب بالانخراط فيها.. وكانت ثمرتها فوز هذه الرواية جارية بهذه الجائزة المهمة. أما للتساؤل الاخير لانبهاري الشديد المتعلق بموضوع واسرار هذه الرواية وكيف أنها استطاعت ان تنافس مع أكثر من خمسمائة رواية عربية من جميع ارجاء الوطن العربي، حيث فازت رواية جارية لمنيرة سوار بالمركز الاول من ضمن الخمس الروايات الفائزة والتي نافست بشراسة مع اسماء أدباء وكتاب عرب لامعين ومجيدين من أمثال واسيني الأعرج وابراهيم عبد المجيد وغيرهما من الاسماء المعروفة. ان رواية جارية تناقش موضوعاً انسانياً غاية في الاهمية والحساسية المتعلقة ببحث الانسان عن ذاته المفقودة في هذه الحياة وعن هويته المسلوبة في أعماق نفسه المحطمة.. فعنوان الرواية جارية يحيلنا مباشرة الى الدلالة الواضحة لمعنى جارية في الوطن العربي.. انها قصة فتاة ذات بشرة سوداء تنحدر من أصولٍ افريقية التي كانت تجلب لامتهان مهن الخدم والجواري والعبيد في بيوت الأسياد الاثرياء واصحاب الوجاهة والمقامات الرفيعة.. فالفتاة جارية ذات سبعة وعشرين ربيعا تعيش في كنف بيت يملكه جدها ووالد أمها الذي وهبه إياه سيده الابيض الثري من عائلة عريقة متنفذة والذي كان يخدمه في السنين القديمة، بالاضافة الى والدتها التي تخفي عنها سراً غامضا تدور عليه أحداث الرواية بأكملها الى أن ينكشف غموض هذا السر الذي عذب جارية كثيرا وهي تبحث عن هويتها المفقودة والمتمثلة في عدم معرفتها من هو والدها وأين يعيش وكيف اختفى من حياتها وهي طفلة في السنتين الاولى من عمرها.. بالاضافة الى طائر ببغاء افريقية من نوع الكاسيكو رباها جدها منذ صغرها ولتذكر جارية بأصولها الافريقية السوداء المنبوذة في أعماقها.. والتي كانت تجاهد جارية ان تخفي تشوهات هذا اللون الاسود في أعماقها بالتعويض عنه بمظاهر خارجية تنسيها عذابها النفسي والعاطفي المريرين، فبدلت اسمها الى جوري وفتحت لها صالونا نسائيا وصبغت جدرانه باللون الابيض الراقي الجميل في نظرها. وتدور أحداث الرواية المؤثرة الرائعة وصراعاتها ما بين حياتها في البيت ومدرستها وصالونها الأبيض وزبوناتها من النساء ذوات البشرة الناعمة البيضاء من الأصول الفارسية وشعورهن الشقراء اللامعة السيالة كالحرير، وعلاقتها بابن خالتها عبيد ّذو البشرة السوداء والعاشق لها والتي كانت تحاول الهروب منه لكي لا تعيش مأساة المعاناة النفسية من كراهيتها للونها الاسود.. بالاضافة الى شخصية مزين الشعر اللبناني هيثم واعجابها الشديد بوسامته وبشرته البيضاء والذي يعمل في صالونها. الى ان تنكشف لها حقيقة ذاتها ومن يكون والدها الغامض المخفي عنها اسمه وعائلته طيلة هذه السنين من عمرها، والتي تكتشف أخيراً انها ابنة... ولتتمكن في النهاية جارية بالاقتناع التام بحقيقة ذاتها الجميلة والاقتناع بنفسها وروحها المفعمة بالعزة والأنفة لما تملك من قدرات وامكانيات ومواهب وجمال روحي باهر.. والذي هو في الواقع الجوهر الاصلي لقيمة الانسان والذي هو اجمل وأعز من الوان جلودنا المختلفة والتافهة، كمجرد اشكال ومظاهر لا قيمة لها إلا لتحسين منظرنا الخادع أمام الآخرين، ولتتحرر من هذه الأوهام والعقد والذنب ولتنطلق بتفاؤل واشراق من جديد. هذه الرواية الرائعة المتقنة الإسلوب والسرد الادبي المُحكم والفن الجمالي لاحداثها الشيقة المثيرة، وشخصياتها الجميلة المرسومة بحرفية وإتقان والى ابداعات لغتها السلسة العذبة التي تشدك فيها كل كلمة خطتها الكاتبة بموهبة فذة، لتعالج مشاكل الصراع اللوني العنصري والتطرف العرقي والطائفي ونبذ الآخر المختلف.. والتي استطاعت الروائية منيرة سوار أن ترفع بها هامة الرواية البحرينية في الوطن العربي الكبير.
مشاركة :