معظم الروايات الأولى، بتصور كليف جيمس، هي سيرة ذاتية مقنّعة. وقد أُشبعت هذه المقولة بحثاً وجدلاً لتتقاطع في نهاية المطاف مع ما بات يُعرف بمحكي الذات. الذي يسمح بتسرب ظلال السيرة إلى الرواية. ولكن ما أن يُشار إلى وجود خيط ضئيل من السيرة الذاتية في رواية عربية حتى تثور ثائرة كاتبها نافياً وجود أي صلة بين أحداث الرواية وسيرته الحياتية. لدرجة أن بعض الروائيين يستهلون رواياتهم بعبارة تنبيهية لإعلان البراءة مما قد يُظن بأنه جزء من آراء ومواقف وملامح وواقع شخصية الكاتب. خصوصاً عندما تكون الكاتبة امرأة. وكأن تسلل الذات إلى العمل الروائي خطيئة أدبية وإجتماعية. الأمر الذي يكشف عن طبيعة الوعي لدى فئة عريضة من الروائيين العرب. فإنكار هؤلاء الذين يمكن وصفهم بالموضوعاتيين، إنما يعني إنفصالهم عن واحد من أهم روافد الكتابة الروائية المتمثل في التخييل الذاتي. منذ ( اعترافات ) جان جاك روسو والرواية الغربية تتقدم باتجاه البوح ومكاشفة الذات. مسنودة فيما بعد بتنظيرت ر. م. البيريس وغيره من الذين قالوا بأن الرواية هي طرح الحياء. بالإضافة إلى إسهامات كثيرة لتحرير الرواية من حس الوعظ والموضوعاتية الفارط. وقد ألقت تلك الآراء بظلالها على خطاب الرواية العالمية فأصابت عربياً بشظايا سرد ( الما بين ) أي تخليط الخيالي بالذاتي. وهو محمد شكري بروايته ( الخبز الحافي ). وعلى الرغم من ذلك ما زال الروائي العربي يكتب الرواية بأنوية ساطية، بروح الواعظ النقائي، الفحل الدونجواني، الرائي الناقد لخطايا المجتمع وهكذا. في الوقت الذي بات فيه المجتمع متعايشاً مع طروحات تلفزيون الواقع والإستعراء النتّي. بما يشكله من سرديات يومية شفافة للذات المنطرحة بلا تشفير ولا مونتاج على الملأ. إن ارتباك الروائي العربي قبالة هذا المبدأ السردي لا يعني فقط غيابه عن الطرازات السردية الأكثر حداثة وفاعلية، بل يعني أنه ما زال أسير ظواهر وممليات إجتماعية بكل ثقلها الأخلاقي والمفهومي والعرفي. فهذا الإتجاه التعبيري ليس مجرد موضة كتابية، بقدر ما هو أداء سردي يمازج ما بين برانية الموضوعي وحميمية الذاتي. وهو أداء يبدو ملحوظاً ومقروءاً بكثافة عند هنري مللر مثلاً. ويمكن التمثيل له في النسخة العربية عند رشيد بوجدرة. الذي يأتي ضمن قائمة الإستثناءات في هذا الحقل السردي المنحرف عن الموضوعاتية بسرد مفعم بشبهة الذاتي. بما يمثله ذلك التكاذب من خصائص جمالية مؤثرة وجاذبة. عندما يقول فيليب سولرز: أنصحكم بقراءة الرواية الجديدة لكاتب إسمه فيليب سولرز. فهو لا يعلي من شأن ( أناه ) على حساب الرواية كنصاب أدبي. إنما يؤسس لميثاق قراءة يلغي كل الإعتبارات الإحترازية. وذلك بدفع القراء للإطلاع على حميمياته، والتماس مع ذاته المذابة في سياقات السرد والتخييلات. كما يؤكد بهذا المنحى، من الوجهة الفنية، على فضائل السرد التذويتي للوجود. المركب من الخيال والذات. بمعنى أن ذاته لا تسمح للخيال بأن يكون هو القيمة المهيمنة. وفتح فضاء الرواية لسيناريوهات تهويمية خارج اشتراطات الزمان والمكان، وبمعزل عن المدارات الإجتماعية التاريخية. الرواية بهذا المعنى التوليفي هي فن من فنون موضعة الذات داخل بناء فني رمزي. والقارئ ضمن هذا المدار غالباً ما يكون مهجوساً بقياس الحد الفاصل ما بين السيري والتخيلي. خصوصاً عند القارئ العربي الذي غالباً ما يُسقط سيرة الكاتب على رواياته. ويتعامل مع ما يرد فيها كوقائع شخصية. وعندما يتعلق الأمر بالروائية يكون التحديق والإنصات أدق وفي في سياق سيكولوجية التفضيح. كما حدث لحنان الشيخ في رواية ( مسك الغزال ) مثلاً. حيث يعقب ذلك التلصُّص إدانة واستنكار. وربما لهذا السبب يهاب الروائي العربي فكرة مركزة ذاته في النص. ويمارس كل فنون الإلتواء لتهريبها خارج النص الروائي. يمكن للرواية كسرد خيالي نثري، أن تتفاعل وتتمازج مع السيرة الذاتية، بما هي سرد استذكاري. وابتناء ذلك التكامل الأدبي بدون التركيز أو الإصرار على التطابق سواء على مستوى الشخصية أو الفضاءات المكانية أو المفاصل الزمنية. فمحكي الذات هنا يعمل كآلية لإذابة عناصر الرواية في رحيق التجارب. مع إمكانية التصريح بالأسماء والوقائع. لكن الذات العربية، ولأسباب خارج إطار الكتابة الروائية، تبدو غير قادرة ولا راغبة على معانقة الحقائق. فالسياسي لا يعترف إلا بما تيسر من سيرته البيضاء. والعاشق لا يتجرأ على مصارحة نفسه بإخفاقاته، بل يقدم نفسه كفحل لا يقاوم. والمرأة لا تستطيع تعريف ذاتها إلا بغيرها الذكوري وهكذا. وكل ذلك يدخل الرواية بمنتهى الفجاجة والطهورية المصطنعة. ثمة منطقة مربكة وملتبسة ما بين محكي الذات ومحكي السيرة. على اعتبار أن السيرة منظومة من الوقائع المعاشة داخل اللحظة والمكان وما يحف بهما من كائنات وظروف وصيرورة. بمعنى أن مرجعيتها خارجية بالضرورة. أما محكي الذات فمرجعيته داخل الرواية. بما هو التوليفة الحكائية المؤسسة على الخيال مع التأكيد على أولوية ومركزية البناء الروائي. وبالتالي فإن استجلاب أي مقطع سيرذاتي واستدخاله في الرواية لا يعني بالضرورة تمديد الذات على كرسي الإعتراف وجلدها في حفلة إستعراء لاستعراض يوميات الذات السرية. إنما إعادة توزيع دور وفاعلية الخيال حسب متطلبات الرواية الحديثة. التي اختصر مدخلها دوبروفسكي في التخييل الذاتي. إن عوالم التخييل الذاتي في الرواية الحديثة مدّبرة بمزاج تجريدي. وهي تتقاطع مع ميثاق السيرة بما هو تقويض لفكرة الكمال البشري وإرباك صريح للذوات المثالية. كما تعمل داخل فضاءات زمانية ومكانية كثيفة لها طابع اليومي. بمعنى أن الروح الفردية هي مسرح التفكير والأداء. أي تبئير الأحداث في شخصية مشعة. ليس بالمعنى الشمولي والمركزي والكمالي. إنما من منطلق عرض الوجود من خلال ذات على درجة من الهشاشة والواقعية والإنكشاف الإنساني. بمعنى اقتلاع الأنموذج البشري المصقول من الأوهام. واستزراع الذات المتخيّلة في تربة بشرية تكون الرواية إطارها. إذ يمكن للروائي العربي هنا أن يمازج ما بين خطاب التخييل الإستيهامي وصراحة الخطاب الأوتوبيوغرافي الإعترافي.
مشاركة :