كتبت: سارة شريف في عام 1984، وجد جواسيس أمريكيون، يراقبون الصحافة السوفيتية، تقريرًا مُقلقًا، لم يكن كشفًا عن المسؤولين في الاتحاد السوفيتي أو سردًا معتادًا بشأن مواقف الحرب الباردة تجاه الولايات المتحدة، بل كان وصفة لـ«الطائر المائي» الصغير الشائع في أوروبا الشرقية. بالنسبة لمسؤولي وكالة المخابرات المركزية، كان ذلك يعني المتاعب، بموجب اتفاق منذ فترة طويلة مع عميل روسي مزدوج أطلقوا عليه اسم TOP HAT – إذا أراد الاتصال بهم، فسيشير إلى ذلك من خلال نشر الوصفة. هل كانت TOP HAT في خطر؟ كما اتضح، نعم، بعد فترة وجيزة، سقط ديمتري بولياكوف، أثمن جاسوس في أمريكا، بعد ما يقرب من 25 عامًا، كان ضابطًا في المخابرات العسكرية السوفيتية باعتباره المورد الأكثر ثقة للولايات المتحدة في الجيش السوفيتي، حيث قدم رزمًا من المعلومات الاستخباراتية وأصبح أسطورة في هذه العملية. ساعدت وثائق ونصائح «بولياكوف» على تشكيل استراتيجية الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وساعدت الجيش الأمريكي على تحديد كيفية التعامل مع الأسلحة السوفيتية. وكان لـ«بولياكوف» الفضل في الحفاظ على الحرب الباردة من الغليان من خلال إعطاء الولايات المتحدة الأسرار التي أعطتها نظرة داخلية للأولويات السوفيتية. لكن هل كان «بولياكوف» عميلًا مزدوجًا؟ أم عميلًا أبقى الولايات المتحدة في حالة ضلال بسبب النصائح الكاذبة والمعلومات الخاطئة؟ وماذا حدث له بعد اختفائه المفاجئ؟ البداية: عميل روسي لا يثير الشكوك.. قدم نفسه للـ CIA وُلِد «بولياكوف» فيما يُعرف الآن بأوكرانيا عام 1921، بعد خدمته في الحرب العالمية الثانية، تم تجنيده من قبل وكالة المخابرات العسكرية التابعة للاتحاد السوفيتي، ولم يكن ذلك النوع من الرجال الذي يمكن لأي شخص أن يثير شكوكًا كجاسوس، كان والده محاسب بسيط يقوم بأعمال نجارة في أوقات فراغه. مع ارتقاء «بولياكوف» في صفوف الوكالة، واتباع البروتوكول والعيش حياة روتينية على ما يبدو، بدأ العمل من خلف الستار، واستطاع تكوين شبكة في جميع أنحاء العالم، وتم تكليفهم بمعرفة كل شيء ممكن عن الحياة الأمريكية والأولويات والأصول العسكرية، وكانت الولايات المتحدة تفعل الشيء نفسه مع الاتحاد السوفيتي، لكن مهمتها كانت أكثر صعوبة بسبب السرية المطلقة التي سادت المخابرات السوفيتية. حتى عرض «بولياكوف» نفسه على وكالة المخابرات المركزية كعميل مزدوج، في ذلك الوقت، كان يعمل في البعثة السوفيتية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وعلى الرغم من أنه كان مخلصًا بشدة للسوفييت، إلا أنه شعر بالاشمئزاز بشكل متزايد مما اعتبره فسادًا وفشلًا وشيكًا للقادة السوفييت، لذلك عرض خدماته على الولايات المتحدة. يعتقد أحد ضباط وكالة المخابرات المركزية الذي عمل مع «بولياكوف»، حسب تصريحه لمراسلة «التايم» إيلين شانون، أن دوافعه لمساعدة الأمريكيين تنبع من خدمته في الحرب العالمية الثانية، لقد قارن بين الرعب والمجازر والأشياء التي حارب من أجلها والازدواجية والفساد الذي رآه يتطور في موسكو. اعتبر «بولياكوف» نفسه «وطنيًا روسيًا»، كما كتب المؤلف رونالد كيسلر، فعاش الجاسوس بشكل متواضع ورفض قبول مبالغ كبيرة مقابل عمله. كيف كسب ثقة الأمريكيين استغرق الأمر سنوات حتى يثبت الجاسوس ولاءه لمسؤولي المخابرات الأمريكية المتشككين، ولكن بمجرد أن بدأ في نقل المعلومات، تحول عدم الثقة إلى الفرح. قدم «بولياكوف» كمية مذهلة من المواد تلقاها العملاء أثناء رحلات الصيد التي قام بها، حيث كان يخبئ المعلومات في أحجار مزيفة. أثبتت المعلومات التي نقلها، أن العلاقات بين الاتحاد السوفياتي والصين أصبحت متوترة بشكل متزايد، واستغلت الولايات المتحدة بدورها تلك الديناميكيات في محاولتها استئناف العلاقة مع الصين. كشف «بولياكوف» أيضًا عن تجسس فرانك بوسارد، وهو ضابط عسكري بريطاني تم القبض عليه وهو يبيع أسرارًا للسوفييت. ولم يكن «بولياكوف» شجاعًا فحسب، بل كان في وضع جيد داخل الجيش السوفيتي ، حيث ارتقى في صفوف الجيش الروسي عامًا بعد عام. قال ساندي جرايمز، الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية، في مقابلة عام 1998: «كان في القمة تمامًا، كان بإمكانه الوصول إلى أنواع كثيرة من المعلومات داخل جهاز المخابرات السوفيتي، قدم معلومات استخباراتية غير مسبوقة ولا مثيل لها». يتذكر «جرايمز»: «كان بولياكوف ضابط مخابرات بارع، بدافع كراهيته للقيادة السوفيتية، عرف جوهرة التاج لضباط المخابرات أنه سيدفع حياته إذا لفت صليبة المزدوج انتباه السوفييت، كان يعلم أنه إذا تم القبض عليه فستكون نهايته درامية». في غضون ذلك، استغل «بولياكوف» دوره كضابط كبير في المخابرات العسكرية الروسية منصبه وقام بتصوير عددًا هائلًا من المستندات، وحصل على معلومات خطيرة من مخبرين خطرين، وأصبح رصيدًا محبوبًا لمسؤولي وكالة المخابرات المركزية، الذين منحوه حرية اختيار تكتيكاته الخاصة وحتى مهامه الخاصة . بمرور الوقت، مرر كنزًا دفينًا من الوثائق المهمة، من المخابرات السوفيتية المتعلقة بحرب فيتنام إلى تقارير الاستراتيجية العسكرية السوفيتية الشهرية، إلى قائمة التكنولوجيا العسكرية التي أراد السوفييت الحصول عليها من الغرب. في النهاية، ملأت المعلومات التي نقلها إلى الولايات المتحدة 25 درج من الملفات العميقة. لقاء غامض واختفاء مفاجئ مع صعود «بولياكوف» إلى رتب متقدمة في الجيش الروسي، استمر في تقديم معلومات للأمريكيين لا تقدر بثمن، لكن في عام 1980، تم استدعاء العميل المزدوج مرة أخرى إلى موسكو، ثم اعتزل فجأة واختفى عن الأنظار تمامًا. كان ضباط المخابرات المركزية يعلمون أن السوفييت بدأوا في اعتقال وقتل العملاء الأمريكيين، على الرغم من أن البعض أصر على أن «بولياكوف» تقاعد ببساطة، إلا أن آخرين قلقوا من إعدامه. بعد ذلك، في عام 1990، نشرت صحيفة برافدا الرسمية التابعة للحزب الشيوعي مقالًا أعلن أن «بولياكوف» قد ضُبط متلبسًا بالتجسس، وتم أسره وحُكم عليه بالإعدام. جادل خبراء المخابرات المحيرين حول الغرض من المقال، وهو اعتراف نادر بأن بعض الجواسيس السوفييت قد عملوا نيابة عن الولايات المتحدة. فهل كان خائنًا للأمريكيين أم أنه بطل سري؟ أم تقاعد بهدوء في نهاية مسيرة جريئة؟ تكهن خبير الاستخبارات توماس باورز، لصحيفة «لوس أنجلوس تايمز»: «هناك شيء واحد فقط حول قضية بولياكوف مؤكد الآن: من قرر نشر قصة برافدا كان بالتأكيد مستعدًا لتذكير العالم بأن الحرب الباردة ربما تنتهي، لكن حرب الاستخبارات ستستمر إلى الأبد». وبينما كان المحللون يتألمون بشأن معنى التقرير، حزن زملاء «بولياكوف» في الولايات المتحدة على صديقهم وفقا لبرافدا، فإن الجاسوس الذي كان يعني الكثير للولايات المتحدة قد أدين بالخيانة وتم إعدامه في عام 1988. أسقطه الجواسيس الأمريكيين لسنوات، اشتبهت الولايات المتحدة في أن ألدريتش أميس، العميل الأمريكي المزدوج الذي أدين بالتجسس ضد الولايات المتحدة في عام 1994، كان وراء الكشف عن بولياكوف، ولكن في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين اكتشف المسؤولون أن «أميس» لم يكن الشخص الوحيد الذي ساهم في سقوط العميل. ففي عام 2001 اتُهم العميل السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالي روبرت هانسن بالتجسس لصالح موسكو، وعلم مسؤولو مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه خان بولياكوف لرؤسائه الروس. كان اعتراف «هانسن» بشأن خدمة بولياكوف كعميل مزدوج قد حدث قبل 5 سنوات على الأقل من اتهام بولياكوف بالتجسس، مما أثار تساؤلات حول ما إذا كان الجنرال قد تم استدراجه إلى الجانب السوفيتي، وربما كان مضللًا للمخابرات الأمريكية في السنوات الأخيرة من خدمته. نهاية مفتوحة هل كان «بولياكوف» جاسوسًا حقيقيًا للولايات المتحدة؟ أم جاسوسًا مزدوجاً زرع الفتنة وقدم المعلومات المضللة إلى الولايات المتحدة؟ يؤكد مسؤولون استخباراتيون رفيعو المستوى أن «بولياكوف» كان الصفقة الحقيقية. قال مسؤول لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام 1990: «كان الرجل صادقاً تمامًا». ويوافقه «جرايمز» قائلًا: «لقد كان رجلاً ذا شجاعة هائلة، في النهاية فزنا. انتهت الحرب الباردة وتم تفكيك الاتحاد السوفيتي». واتفق معه في الرأي مدير وكالة المخابرات المركزية السابق جيمس وولسي، الذي قال لمراسل في عام 2001: «ما فعله الجنرال بولياكوف للغرب لم يساعدنا فقط على الانتصار في الحرب الباردة، لقد منع الحرب الباردة من أن تصبح ساخنة».
مشاركة :