سخّرت الولايات المتحدة الأميركية القوة الناعمة لصالحها لتلميع صورتها ونشر أفكارها وسياساتها وفي المقابل تشويه أعدائها ومعارضيها. كثيرة هي الروايات والرسوم والأغاني والأفلام التي استخدمتها السياسة الأميركية في فرض سيطرتها على العالم. وبشكل خاص سنركز على السينما لأنها أكثر الاستثمارات الأميركية نجاحا في عالم الفن وأكثرها رواجا وقدرة على التغيير ونشر الأفكار الأميركية في شتى أصقاع الأرض حتى لو كانت مزيفة ومكذوبة. “إنهم إناس متوحشون”. هكذا يصف القاتل الأميركي كريس كايل الناس في العراق، بعد أن كان قناصا في الجيش الأميركي أثناء احتلال العراق. ويضيف “هؤلاء هم الأشخاص الذين كنا نقاتلهم في العراق، وهذا هو الذي جعل الكثير من الأشخاص – وأنا من ضمنهم – يصفون الأعداء بالمتوحشين، كونه لا يوجد وصف آخر ينطبق عليهم، الكثير من الأشخاص يسألونني: هل يسوؤك أنك قتلت العديد من الأشخاص في العراق؟ وأنا أجيبهم: لا يعجبني ما قمت به سابقا. أنا لا أبالغ أو أكذب إذ أقول إن قتل العراقيين كان متعة بالنسبة إلي”. هذا الموقف المتطرف سبّب صدمة كبرى إلى المجتمع العالمي والأميركي، وبسببه كتب المخرج السينمائي الشهير مايكل مور “قُتل عمي على يد أحد القناصين في الحرب العالمية الثانية، نحن نعلم أن القناصين جبناء، لأنهم سيطلقون عليك النار من الخلف، القناصون ليسوا أبطالا، وكونهم غزاة يجعل الأمر أسوأ”. الشيوعيون ثم العرب إنتاج هكذا أفلام، وبهذه المواقف المتطرفة، لم يكن ليتوقف يوما. فلم يعد خافيا أن الإدارة الأميركية تستخدم السينما الهوليوودية في سبيل تحقيق أهدافها، والأمثلة التي تؤكد هذا التوجه كثيرة وواضحة. ومن يعتقد أن سينمائيي أميركا أحرار في ما يصنعون من أفلام مخطئ بالتأكيد. ففي دولة قوية كأميركا، يحقق البنتاغون ووكالة الاستخبارات حضورا طاغيا في صناعة حالة الميديا عامة ومنها السينما. ومن يريد من صناع السينما داخل أميركا كسب دعم كبير لفيلمه بحيث يصير عالميا ومربحا ماليا فلا بد له من الولوج من باب أحدهما. لذلك كان تدخل هاتين الجهتين في صناعة السينما في هوليوود منظما وحاسما. وصارت السينما بالنسبة للدولة مجالا هاما ومتقدما للترويج للسياسة العليا لها وفي الوقت ذاته منبرا لتشويه أعدائها السياسيين في العالم وأهمهم في الوقت الحالي العرب والمسلمون. في كتابها الشهير “دور السي آي أيه في هوليوود” تبين الكاتبة والباحثة تريشيا جنكيز أن وكالة الاستخبارات الأميركية قد أوجدت خلال مرحلة الحرب الباردة وعدائها للاتحاد السوفييتي والحالة الشيوعية في العالم مركزا للأبحاث فيها، كان مختصا بإيجاد دراسات تكافح الشيوعية وكان من مهامه البحث عن الروايات والآثار الأدبية التي يمكن لأصحابها التعامل مع الأميركيين لصناعة أفلام من خلالها بعد إدخال ما يرونه مناسبا لهم. بعد الشيوعيين اهتمت السينما الأميركية بتشويه صورة العرب والمسلمين وجعلهم فقط مجموعة من القتلة والمجرمين والجهلة ومن المعروف أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، راحت الجهود تنصب على العدو الجديد لأميركا وهو من وجهة نظرهم الإسلام، وصارت هذه المكاتب والمراكز معنية بتقديم ذات الخدمات في اتجاه العالم الإسلامي والعربي بدل الشيوعية. تقول الباحثة كارن آرميسترونغ في كتابها “محمد.. سيرة حياة نبي”، “الغرب لديه تاريخ طويل من الشعور بالعداء تجاه الإسلام، ولا يزال هذا العداء مستمرا، وهو ما دفع بالسكرتير العام لحلف شمال الأطلسي إلى القول عام 1995 إن الإسلام لا يقل خطورة على الغرب من الشيوعية”. كما جاء في كتاب “الحياة والموت السري في وكالة الاستخبارات المركزية” للباحث تيد جب أنه عندما انتهت الحرب الباردة، أدركت وكالة المخابرات الأميركية أن ميزانيتها الضخمة التي تتخصص بها صارت محط احتجاج المواطنين، ولدعم وجود الفكرة وترسيخها أوجدت مكتبا للتنسيق مع هوليوود بدءا من العام 1996. وخلال عمرها عمدت السينما الأميركية إلى إظهار الشخصية العربية أو الإسلامية بشكل نمطي سيء، بحيث تظهر متخلفة متوحشة تنجرف وراء نزواتها وملذاتها إلى أبعد درجة ولا تبدي اهتماما بصناعة حياة اجتماعية تقوم على التعاون وبناء المستقبل، بل تعيش يومها ملاحقة شهواتها ونزواتها. وكانت البداية من فيلم الشيخ الذي أنتج عام 1921 وهو من إخراج جورج ملفورد وتمثيل رودلف فالنتينو وأغنيس أيريس ويتحدث عن شيخ عربي يقوم بخطف سيدة أوروبية تعبر الصحراء إشباعا لنهمه بالنساء ويجعلها من حريمه الخاص، ولكن السيدة الأوروبية ترفض ذلك وترفض ارتداء الزي العربي الذي يعيق حركتها، لكن مقاومة السيدة تتلاشى وينقلب رفضها إلى الحب عندما تعلم أن أصله بريطاني. في عام 2017 صدر كتاب في أميركا تناول بلغة الوثائق والأدلة القاطعة موضوع تدخل الإدارة الأميركية في صناعة السينما في هوليوود ألفه الباحثان توم سيكر وماتيو ألفرود. حمل الكتاب عنوان “الأمن القومي السينمائي: الدليل الجديد على التدخل الحكومي في هوليوود”. استفاد الباحثان من قانون تبادل المعلومات الذي أتاح لهما الإطلاع على الآلاف من الوثائق العسكرية والاستخباراتية التي تقطع بوجود هيمنة حكومية على قطاع السينما بما فيها التدخل في بعض الصياغات اللغوية لجمل في السيناريوهات. ويؤكد مؤلفا الكتاب أن الإدارة تدخلت في أكثر من 1800 فيلم ومسلسل. كما يؤكد الباحثان أن شرط وجود دعم البنتاغون للفيلم السينمائي يتطلب عرض النص أولا عليه وكتابة تعهد من مخرجه بتنفيذ النسخة المعدلة من النص التي يعدها البنتاغون والذي قد يتدخل فيها من المراحل الأولى في كتابة النص لكي تتم الكتابة وفق ما يراه العسكريون.. كما أن وكالة الاستخبارات تمارس تدخلا كما فعلت في فيلم “ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل” الذي يتحدث عن قتل أسامة بن لادن، فحذفت منه مشهد استخدام الكلاب الشرسة في التحقيق مع الأسرى. وكان لأحداث سبتمبر 2011 تأثير كبير على هذه الحالة، فزاد تأثير الفكرة الخاطئة عن العرب والإسلام، وصار العرب والمسلمون من وجهة نظر صناعة السينما في هوليوود مجموعة من القتلة والمجرمين والجهلة. سينما القناصة العرب يصورونهم دائما كشهوانيين ومجرمين العرب يصورونهم دائما كشهوانيين ومجرمين كرست السينما في هوليوود هذا التوجه حتى في الأفلام التي لا تتبنى مقولات سياسية، لعل من أهمها الفيلم العالمي الشهير “تايتانيك” الذي ظهرت فيه شخصية العربي بشكل مزر حيث تعمد مخرج الفيلم جميس كاميرون إظهار العربي حائرا على سطح السفينة التي تكاد تغرق وهو يمسك قاموسا باللغة الإنجليزية لا يعرف التعامل معه ليقرأ اللوحة التي كتب عليها إنه مخرج الطوارئ. بينما ذهب كل الآخرين إليه بل حتى الحيوان ذهب فورا بالاتجاه الصحيح قبل أن يظهر العربي بعده على ذلك الشكل غير اللائق. وعلى النقيض نجد في ذات الفيلم كيف انتحر الجندي اليهودي على السفينة عندما أطلق النار خطأ وقتل أحد المسافرين فلم يحتمل أزمة الضمير فانتحر. العشرات من الأفلام العالمية تحدثت عن الجندي القناص وعن المعارك التي يخوضها، والبعض منهم صاروا أبطالا ملحميين في أوطانهم، وعززت السينما العالمية هذا التوجه فظهرت أفلام كان موضوعها القناصون. فعبر تاريخ السينما أنتجت العديد من الأفلام منها: الجدار، العدو على الأبواب، الذي تحدث عن قناص سوفييتي شهير أثناء الحرب العالمية الثانية، كذلك كان فيلم القتلة، القناص، الكفاح من أجل سيفاستبول، كبينة الهاتف، هاري القذر. و أخيرا عام 2014 فيلم قناص أميركي. الفيلم مستوحى من كتاب حمل ذات العنوان كتبه كريس كايل الذي كان ضمن تعداد جيش الاحتلال الأميركي في حرب العراق، وقتل أثناء سنوات الحرب التي شارك فيها مئة وستين شخصا في العراق. ثم قتله لاحقا في أميركا عام 2013 جندي أميركي شارك في الحرب. كريس كايل من وجهة نظر الإدارة الأميركية وشرائح أميركية بطل وطني، لأنه شارك في الحرب على الإرهاب، وهو كما يرونه يحمي وطنه من أناس قد يشكلون خطرا عليه، ولكن من وجهة نظر مناهضة فهو قاتل ومجرم ساهم في تكريس العنف والحرب. صناع الفيلم يصرون على أنه ليس فيلما سياسيا، بل هو فيلم يحكي عن معاناة جندي في الحرب، لكن الفيلم مليء على الطريقة الأميركية التي لا تخفى على الناس، بالإسقاطات الفكرية التي تروي حكاية الحرب من وجهة نظر الاحتلال الأميركي وليس من وجهة نظر الشعب العراقي المقاوم. عندما صدر الكتاب في أميركا حقق رواجا كبيرا، واهتمت به هوليوود كونه يتسق مع نظرتها في إنتاج أفلام ذات توجه محدد، يظهر حجم بطولات الجندي الأميركي وفي ذات الوقت يظهر العدو بشكل الإرهابي المتشدد والمتخلف. فسخّرت له طاقات إنتاجية هامة، فأسندت إخراجه إلى الممثل والمخرج الشهير كلينت إيستوود وكان من بطولة برادلي كوبر. حقق الفيلم حين تم افتتاح عروضه إيرادات تجاوزت المئة مليون دولار من اليوم الأول، وحقق مرابيح نهائية فاقت المئتين وخمسين مليون دولار. ورشح الفيلم لعدة جوائز أوسكار منها أفضل فيلم متكامل وأفضل سيناريو وأفضل مونتاج وأفضل ممثل رئيسي. وحظي بالكثير من المتابعة حتى في الدول العربية والإسلامية التي عرض فيها، نظرا إلى الحرفية العالية التي نفذ بها والجهد الذي قام به بطل الفيلم. ورغم الاعتراضات التي ثارت ضد الفيلم، خرج جاك هورنر المتحدث باسم شركة وارنر براذرز الجهة المنتجة للفيلم ليقول في تصريحات إعلامية “إن الشركة تدين أي لغة معادية للمسلمين تتسم بالعنف. والكراهية والتعصب لا مكان لهما في الحوار، المهم الذي أثاره هذا الفيلم الذي يجسد تجربة جندي مخضرم“. الأميركي دائما في صورة البطل والمنتصر الأميركي دائما في صورة البطل والمنتصر نجاح هذا الفيلم تجاريا وعالميا يؤكد مجددا أهمية القوة الناعمة التي تستخدمها أميركا في الهيمنة على العالم، ونعني بها السينما، التي تفرض من خلالها على الثقافة العالمية وجهة نظرها السياسية. وهذا ما يدفع العديد من المثقفين إلى القول إن أميركا تقدم في السينما ما تنوي فعله بعد عشرين عاما. وتفرض هيمنتها على ثقافة العالم من خلال خطط إنتاجية سينمائية بالغة الدقة والتعقيد. في صحيفة نيويورك تايمز علق صحافيان أميركيان، هما كارل إيكنبيري وديفيد كينيدي، على حقيقة وجود المعارك التي يخوضها الجيش الأميركي وتناقض ذلك مع ما تقدمه وسائل الإعلام “التحدي الأكبر للجيش الأميركي ليس قادما من العدو الأجنبي، بل إنه متمثل باتساع الفجوة بين الشعب الأميركي والقوات المسلحة، فوسائل الإعلام تصوّر لنا العمليات العسكرية على أنها طائرات دون طيار، تعمل على تصفية الأهداف إلكترونيا بهدوء وأمان على بعد آلاف الأميال من الأرض الأميركية، بينما هوليوود تصوّر لنا الجيش الأميركي على أنه فرق من قوات العمليات الخاصة تنفّذ مهامها بأساليب تتخطى حدود الطاقة البشرية للقضاء على الخصوم بدقة متناهية”. رد عربي خافت كثيرا ما نشرت مقاطع فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي في العراق والعالم، تظهر قناصا عراقيا وهو يقاوم الجنود الأميركيين برصاصات قاتلة. وكثيرا ما نشرت أحاديث وأقاويل عن ذلك القناص الذي وضعت أميركا جوائز مالية ضخمة لمن يدلها عليه. ولكن تضارب هذه الروايات لم يصل إلى تحديد هوية هذا القناص، فمنهم من رأى أنه واحد وبعضهم يرى أنه العديد من القناصين. والبعض نفذ عنه فيلما سينمائيا بمشاركة عربية وعالمية، لكنه لم يحظ بالشهرة والقوة اللتين كونهما الفيلم الأميركي “قناص أميركي” لغياب المنهجية والخطة الإنتاجية والإعلامية التي يجب أن تتوافر في هكذا أفلام لتحقيق أكبر قدر من الحضور الإعلامي والفني الذي يخدم بدوره وجهة نظر سياسية محددة. يرى الكثير من العاملين في الوسط السينمائي العربي أن نجاح إنتاج فيلم “قناص أميركي”، ومن ثم إنتاج فيلم مناهض عن قناص عراقي بالشكل الذي ظهر عليه، وضع موضوع الحالة الإعلامية عامة والسينمائية خاصة على المحك، حيث تبدت حالة القصور والتخلف الشديد التي تعاني منها صناعة السينما العربية في تقديم أفلام ضمن خطط مبرمجة تحقق طموح الدول العربية في تقديم وجهة نظرها الفنية وحتى السياسية من خلال منظور الفن والسينما. فحال السينما العربية لا يقدم حتى على المستوى العربي والمحلي هذه النوعية من الأفلام التي صار وجودها في عصر العولمة أمرا بالغ الأهمية لمقاومة هيمنة الثقافة الأميركية. تنقلب المفاهيم والقيم الإنسانية لدى الساسة في أميركا عندما يتعلق الأمر بوجهة نظرهم السياسية وما يقومون به من حروب عالمية، فهم لا يمانعون في تقديم ما يقوم به جنودهم في العالم من جرائم، من خلال أفلام سينمائية هوليوودية تمجد تلك الأعمال والحروب مهما كانت قاسية وخارجة عن قيم الإنسانية والقانون.
مشاركة :