التونسيون لا يحتاجون إلى طه حسين | محمد ناصر المولهي | صحيفة العرب

  • 8/31/2020
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

قد نجد تعارضا بين من يدعو إلى حل وزارات الثقافة، وبين من يتشبث بهذه المؤسسات راعية للثقافة والفنون والمثقفين والفنانين في كل بلد، لكن هذا التعارض يسقط إذا ما ناقشنا مع كلا الطرفين أهمية الثقافة، فالثقافة عنصر نهضة أساسي وأداة تنوير ضرورية لتحقيق الرقي وتحيين الأفكار والرؤى. هذه النظرة التي اعتقدنا أنها ستكون للثقافة بعد الثورة التونسية لكنها ساءت أكثر مما كانت. ما أن أعلن هشام المشيشي، المكلف بتشكيل الحكومة التونسية، عن أسماء الوزراء المقترحين، حتى لفت الأنظار وزير الثقافة المقترح، وهو الأكاديمي وليد الزيدي الأستاذ المختص في اللغة والألسنية، وأول ضرير يتحصل على الدكتوراه في تونس. الوزير لفت الأنظار وسرعان ما تحول إلى ضجة كبرى في تونس، والسبب شكلي في ظاهره، لأن الزيدي ضرير، وخلافي في عمقه يستبطن إشكالات عميقة في نظرة الدولة إلى قطاع الثقافة. ليس طه حسين إشكالية التعيين الجديد على رأس وزارة منهكة مثل وزارة الثقافة، حصرها البعض في أن الأكاديمي وليد الزيدي ضرير ولا يمكنه تسيير شؤون وزارة نشاطاتها تتجاوز حدود الفكر والأدب وتقوم على فنون الفرجة من مسرح وسينما وفنون تشكيلية ومهرجانات. وهذا ما قسم المهتمين بالشأن الثقافي تقسيما أوليا، بين أنصار “طه حسين تونس” وبين من هم ضد تعيينه. التقسيم الأولي وإن لم يخلُ من سذاجة، فإن فيه جوانب مخفية عديدة، فمن ادعوا بأن الوزير المقترح طه حسين جديد واهمون، لأن طه حسين قادم إلى الثقافة كفاعل ومنتج أدبي وفكري، له تأثيراته المتواصلة إلى اليوم في جرأة نقده لرثاثة الفكر العربي وتكلس نظرة النقد الذي قدس القديم مثل الشعر الجاهلي، كما تميز بجرأة إبداعه في السيرة الذاتية. عموما هي تفاصيل معروفة عن أديب لقب بـ”عميد الأدب العربي”، وقد تسلم طه حسين منصب وزارة المعارف والتي كان من مهامها ما يسمى اليوم وزارة التربية والتعليم. أما وليد الزيدي فهو بعيد عن حركية الساحة الثقافية التونسية وإشكالاتها كل البعد، وعن الإلمام بما يتطلبه الوضع الراهن الخطير، وهو ما يؤكده هو نفسه في تدوينة أثارت جدلا ثانيا، حيث أكد على أن مكانه هو الجامعة، لكن بطريقة مخاتلة تشبّه الزيدي بطه حسين لترسيخ صورته لا كوزير كفء بل كوزير ضرير، وهي سابقة تاريخية في تونس، حيث أشار إلى أنه لم يختر الوزارة بل “لم يرد مواردها ولم يبلغ مبالغها”، وهو نفس ما قاله طه حسين سنة 1950 “لم أختر أن أكون وزيرا.. وإنما هو قضاء الله”، وهو نفس ما قاله الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد، وهو نفس ما يتكرر منذ معاوية ابن أبي سفيان إلى اليوم، وكأن الحكم قدر لهؤلاء وما للشعب سوى أن يرضى بقضاء الله. التباين كبير بين الزيدي وطه حسين، وإن حاول الأول التشبه بالثاني فهو من باب استغلال شخص حقق له منجزه الأدبي والثقافي والمؤسساتي تاريخيا، وما الشبه إلا في فقدان البصر، هذا المعطى الذي تحول إلى حجة بين من يدافع بشراسة عن وزير للثقافة لأنه ضرير وهذا سبق، وبين رافض بسبب فقدان الوزير المقترح لحاسة الإبصار، وكلا المتخالفين شكليّ لم ينفذ إلى العمق، الأول ينتصر من باب الشفقة والثاني من باب التعالي. الاختلاف الحقيقي لا يجب أن يكون على شكل الوزير أو انتمائه أو غيره بل على قدرته وكفاءته في اختيار فريق والعمل معه على تجاوز كم رهيب من المشاكل العالقة في هذه الوزارة التي لا توليها الدولة التقدير والاهتمام الكافيين، بل تتعامل معها كمؤسسة ثانوية، كما تتعامل مع المثقفين كعناصر للتسلية. الإدارة والرؤى تنقسم مشاكل وزارة الثقافة التونسية إلى ما هو إداري وما هو رؤيوي في ما يتعلق بالمشروع الثقافي المراد تحقيقه لبلد عريق حضاريا وغني ثقافيا. هل يقدر الأكاديمي وليد الزيدي، الذي يعتبر أكبر نشاطاته الثقافية تنشيط ناد أدبي، على تجاوز العراقيل المادية والرؤيوية لوزارة الثقافة؟ هناك شح موارد كبير تعاني منه وزارة الثقافة التونسية، يعطل عملها ويغرقها في ديون تحتاج إلى جرأة إدارية في التعامل معها، ثم تحتاج الوزارة إلى إعادة النظر في هيكلة مؤسساتها بالجهات من دور الثقافة والمكتبات العمومية التي تعاني بشكل مفزع من الفراغ وقلة التمويل وغياب الرؤى والمشاريع والبنية التحتية المتهالكة والإطارات المقحمة في العمل الثقافي فقط كمجال للتشغيل وكوظيفة وراتب. التباين كبير بين الزيدي وطه حسين وإن حاول الأول التشبه بالثاني فهو من باب استغلال شخص حقق تاريخه هناك إشكالات كبيرة في ما يتعلق بالدعم المسرحي والسينمائي، وهو ما يحتاج مراجعة كبرى، وإشكالات أخرى تتعلق بدعم الكتاب وارتهان وزارة الثقافة للناشرين في القطاع الخاص، الذين يعانون بدورهم تراجع الدعم، ثم الوزارة تخلت تماما عن دورها في نشر الكتاب التونسي وهو سبب ما نراه من مشهد أدبي فظيع يتسيده تجار النشر ومضاربو الجوائز والأدب المفتعل. ثم قطاع الفنون التشكيلية الذي ينتظر بدوره دورة كل عام لتقتني الوزارة بعض أعمال الفنانين، حيث بقي بدوره هامشا على هامش، حتى قطاع الموسيقى يعاني من المحاباة والمناسباتية ومن غياب المشاريع التي يمكنها خلق أرضية مناسبة للإبداع، أما قطاعات أخرى كالرقص والخزف وفنون العرائس فبدورها تحتاج إلى توجه أكثر جرأة في الدعم وفرز الغث من السمين فيها. إشكالات أخرى متعلقة بالمهرجانات سواء الفنية أو الأدبية أو الترفيهية، فإن تضاعفت أعدادها فإنها تستحق تنظيما أكبر لتجنب إهدار المال العام وتحقيق الغاية الفنية والثقافية ولمَ لا السياحية أو الترفيهية منها. أما في ما يتعلق بالرؤيا فتستحق الثقافة التونسية اهتماما كبيرا لترسيخها أداة تنوير وانفتاح، والمحافظة على امتدادها التاريخي والحضاري، حيث تزخر تونس التي تعاقبت عليها حضارات شتى بعراقة ثقافية تتجاوز الثلاثة آلاف عام، ومن الجدير الاهتمام بهذا الجانب مع التركيز على الانفتاح والتسامح كميزة ثقافية تونسية. نزيد على ما أسلفنا الإشكالات التي فرضتها أزمة انتشار فايروس كوفيد – 19، والتي شلت الحركة الثقافية وعطلت مشاريع ثقافية كثيرة إضافة إلى كونها سببت ضررا فادحا لبعض القطاعات مثل دور السينما والناشرين والمكتبات وغيرها من القطاعات المهددة جديا بالإفلاس. الإشكالات كثيرة بين الإداري والرؤيوي، وهو ما يجعلنا نتساءل ماذا يمكن للوزير الأستاذ الجامعي أن يقدم لحلها؟ استهتار الدولة عودا على بدء المقال من حيث انبهار بعضهم بأن الوزير المقترح ضرير وتشجيعهم له من باب هذه الشفقة، التي تخفي بدورها نظرة علوية منهم، فإن هذا الاقتراح يشي بخلل فادح في رؤية القائمين على شؤون الدولة للثقافة، حيث هي ترفيه أو مؤسسة مدرسية محدودة وقطاع ثانوي يشبه الديكور، وما العناية به إلا من قبيل تغيير أماكن الأثاث أو نفض الغبار عنه، بينما الثقافة خاصة في هذا الزمن المفصلي، هي أداة سيادية وعنصر قوة اقتصادي وانفتاح على الخارج ووسيلة أولى للنهوض بالشعب والدولة في علاقتها بالتعليم والتثقيف وخلق الحركية وبيئة تسامح تحقق الاستقرار وتحيّن الأفكار والذائقة، لذا فإذا لم ينظر إلى وزارة كوزارة سيادية فإن النظرة قاصرة. إن ما سعى إليه رئيس الحكومة المكلف ومن خلفه رئاسة الجمهورية هو نوع من الاحتقار للثقافة والمثقفين، حيث حولا قضية حساسة مثل الثقافة إلى مسألة شعبوية، ولخصا التعيين كما رفضه فقط في باب أن الوزير فاقد لحاسة النظر، وهذا فيه حط أيضا من الوزير المقترح. أما الأكاديمي وليد الزيدي فلو كان متوقفا عند حدود فقدانه للبصر لما نال الدكتوراه ولما كان أستاذا مميزا لطلبته، لكنه هو بدوره أثبت الخلل الكبير في جهاز الدولة التونسية التي تعاني من أسوأ أزماتها السياسية، حيث انسحب في تدوينة له معتبرا أن مكانه فقط داخل أسوار الجامعة، ثم قام بتعديل التدوينة بما يوحي بإمكانية انسحابه، ثم قام رئيس الحكومة المكلف بالتخلي عنه لأنه لا مجال للتذبذب في رأيه، ومن بعد يستدعي الرئيس قيس سعيد الوزير المكلف ليثبّته كمقترح لوزارة الثقافة، أي لهو هذا بأعناق الثقافة؟ أي استهتار بالدولة وأجهزتها؟ أي استهتار بالمثقفين والعاملين بقطاع الثقافة ممن سلبت حقوقهم إلى اليوم؟

مشاركة :