منذ أن بدأت قوافل المغادرين باتجاه الشرق والغرب والشمال والجنوب، بحثاً عن أسباب المتعة والبهجة والفرحة والدهشة والسعادة التي يرسمها السفر على قلوب وعقول وأرواح أرهقها عام طويل من العمل والملل والرتابة والكآبة، لتزدحم المطارات والمعابر والحدود التي تقذف بالملايين من كل الأعمار والفئات والمستويات إلى تلك الفضاءات والوجهات والخيارات. ويرن السؤال، نفس السؤال على مسامع القائمين والمعنيين والمهتمين بقطاع السياحة الوطنية: ما الذي يدفع كل هذه الملايين للسفر خارج الوطن في كل إجازة صغيرة أو كبيرة، رغم ما تتمتع به بلادنا القارية الواسعة من ثروات وخيرات وإمكانيات وقدرات ومقومات سياحية لا مثيل لها؟ أعرف أنه سؤال كبير ومعقد، وأشبع تنظيراً وبحثاً وجدلاً من قبل الكتاب والاقتصاديين والمختصين، ولكنه - أي السؤال - من النوع الذي لا يمكن تحييده وتحجيمه وتأطيره، لأنه بكل بساطة يصرخ في وجه ظاهرة موسمية خطيرة تتسبب في فقدان وضياع وهروب الكثير من الثروات والطاقات والجهود التي آن لها أن تُضَخ في شرايين هذا الوطن الرائع الذي يملك كل المقومات والملامح السياحية الفريدة. والسياحة، قطاع حيوي مهم وحساس، ويتطلب وجود قناعة وإرادة ورؤية في فكر ومزاج القائمين على هذا القطاع، كما يحتاج إلى توفر منظومة متكاملة تتعامل مع السياحة كصناعة كبرى لها أدواتها وآلياتها ومقوماتها، لا مجرد تفاصيل بسيطة ومستقلة عن بعضها تتركز عادة في تذكرة سفر أو حجز في فندق أو جولة في مركز تجاري. لا، السياحة الحقيقية أعمق وأكبر وأكثر من كل ذلك بكثير، فهي قوة ناعمة كبرى آمنت بها الكثير من البلدان المتقدمة والمتطورة، لأنها كنز لا يفنى ووفرة لا تنضب، تدر المليارات وتوفر الوظائف والأعمال لكل شرائح وفئات ومكونات المجتمع. إن السياحة الآن، بل ومنذ عقود، أصبحت أحد أهم مصادر الدخل للكثير من الدول الكبرى التي أولت هذا القطاع عناية فائقة، لأنها أدركت أهميته وتأثيره ومساهمته في تنمية وتطور وازدهار كل القطاعات والمجالات، بل ويُحقق لها العديد من الطموحات والتطلعات والأهداف التنموية الكبرى. إن التجارب السياحية الناجحة للعديد من الدول العربية والأجنبية، تؤكد حقيقة راسخة لا جدال فيها، وهي أن السياحة تجربة إنسانية وحضارية وثقافية تُبرز حجم التفوق والإبداع والتميز الذي يتطلع له أي بلد في العالم، وأنها - أي السياحة - ليست مجرد آثار وأجواء وبيئات وخدمات ومقومات وقدرات، بل هي كل ذلك وأكثر، ولكنها في المقام الأول تعتمد على رؤية واضحة تعتمد على السياسات والتوجهات والقناعات التي يحملها القائمون على هذا القطاع الحيوي المهم. منذ أسبوع تقريباً، رصدت الكثير من المهرجانات والفعاليات السياحية الوطنية التي تنتشر على امتداد وطننا العزيز، والتي غصّت بها الصحف والفضائيات والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهي محاولة محمومة لكسب وجذب ما تبقى من بعض الشرائح والفئات التي لم تسعفها الظروف للالتحاق بركب المغادرين. للأسف الشديد، أغلب تلك المهرجانات والفعاليات، يغلب عليها طابع العفوية والعشوائية والبساطة، وتفتقد لأدنى معايير الحرفية والمهنية التي يعرفها جيداً السائح السعودي الذي جرب الكثير من التجارب السياحية المختلفة هنا وهناك. بكل صراحة، هذه المهرجانات والفعاليات لا يمكن لها الصمود والمنافسة مع كل تلك الإغراءات والإمكانيات والخدمات التي تقدمها بعض الدول التي تستهدف السائح السعودي باعتباره الأكثر إنفاقاً وتردداً، حيث وفّرت له كل ملامح وعوامل الجذب والمتعة والبهجة التي يبحث عنها، بل إن تلك الدول تُخطط برامجها ومهرجاناتها السياحية وفق مواعيد الإجازات والعطلات السعودية. وحتى لا أنزلق في منحدر النقد الذي لا ينتهي لسياحتنا الداخلية، وهي التي تتعرض باستمرار لحملة شعواء من الهجوم والتعريض والتجريح من قبل المهتمين بهذا القطاع، فضلاً عن الكتاب والمثقفين، والنقد على كل حال - خاصة الهادف - هو الجانب المكمل لأي عمل وإنجاز، سأحاول قدر الإمكان أن أمارس عادة أخرى لا نميل إليها نحن معشر الكتاب، وهي محاولة تلمس الحلول فيما نطرح من مشكلات وأزمات. ما هي أهم عوامل رئيسية لنجاح سياحتنا الداخلية؟ مقال الأحد المقبل، سيحاول الإجابة بهدوء وتركيز وموضوعية على هذا السؤال الصعب، وسيكون أشبه بعرض حزمة إنقاذ لهذا القطاع الحيوي المهم الذي آن له أن يستقر في فكر ومزاج وقناعة المجتمع السعودي. عزيزي القارئ: لماذا لا تُشارك في كتابة هذه العوامل السبع، فأنت المستفيد الأول؟
مشاركة :