تعيش الحكومة التركية هذه الأيام ظروفا لا تحسد عليها من حيث صعوبتها. فلأول مرة منذ وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي المعتدل تجد الحكومة نفسها مرغمة على الأخذ بسياسة التوافق مع القوى السياسية في المعارضة للإرهاب ورسم سياسة واضحة لمجابهته من جهة، ومن جهة أخرى في عدم التخلي عن معالم سياسة مراوغة وفعالة ضمنت لها البقاء في السلطة بشكل منفرد ومتعجرف أحياناً على مدى اثني عشر عاما تحت حكم ديمقراطي بضمانة تصويت أغلبية الشعب التركي. اليوم تركيا بحكومة إدارة أعمال بانتظار تنازلات صعبة من جميع الأحزاب أو الذهاب لانتخابات مبكرة في ظروف حرب على الأبواب تمثل (منعطفا مهماً في الحرب على الإرهاب) كما تكتب جريدة اللوموند الفرنسية. إلى أي وجهة تحمل جانبا من المغامرة سيتجه حزب العدالة والتنمية؟ حكومة ائتلافية أم انتخابات مبكرة؟ الجواب عن هذا السؤال سيحدد مسارات المنعطف الجديد. وإذا أضيف إلى ذلك، الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة وتركيا حول المساهمة الكاملة لتركيا في التحالف الدولي ضد داعش في العراق وسوريا، وتداعيات الاتفاق النووي مع إيران على بلدان المنطقة وتركيا لاعب أساسي في الحلول السلمية المقترحة، فقد تطول مخارج الأزمة التركية وفقاً لمخارج أزمة المنطقة. مع ذلك، أمام دولة تحمل كل مقومات الدولة المستقرة والقوية على كل المستويات المؤسساتية السياسية والاقتصادية والمكانة الدولية والتجارب الغنية في إدارة الأزمات والمحن، ستتمكن تركيا من أن تكون.. هي تركيا..القادرة على مفاجأة العالم بقفزات نوعية إلى الأمام لشعبها كلما ظن الناس أنها أمام طريق مسدود. ما الذي حدث في الأسبوع الماضي وجعل تركيا تغير سياستها في محاربة الإرهاب من الممانعة في المشاركة المباشرة في التحالف الدولي إلى السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة انجرليك الشهيرة ضد تنظيم داعش؟ ضابط من الجيش التركي مع أربعة جنود حدود منعوا مقاتلين من داعش من إدخال أحد جرحاهم إلى تركيا للعلاج كالعادة، فأطلق الإرهابيون النار على الضابط وقتلوه وجرحوا الجنود ثم بدأ إطلاق النار بين الجنود الأتراك ومقاتلي داعش على الحدود، وتلا ذلك شن الطائرات التركية غارات على مواقع معروفة لداعش في الأراضي السورية. هذه الأحداث لم تكن معزولة عما يدور في كواليس الأخوة الأعداء. ما حدث جاء ربما صدفة بعد يوم أو يومين من استكمال القوات العسكرية كافة تجهيزاتها على طول الحدود التركية استعدادا ليس فقط لمواجهة داعش بل ولمخططات الإرهابيين الأكراد التي يجسدها الحزب الديمقراطي الكردستاني، وقوات حماية الشعب الكردي وما يضمرونه من نوايا تبدو معالمها واضحة في انتصاراتهم وتوسيع مناطق سيطرتهم بالقرب من الحدود التركية. كيان كردي جديد يوحي بتعاطف أمريكي حقيقي أو مزعوم ولا يخلو من تواطؤ بشار الأسد وطغمته، وحزب العمال الكردستاني التركي يعلن مسؤوليته عن اغتيال ضابط تركي، والموقف التركي ملتبس؟ هذا ما جرى الحديث حوله في مشاورات طويلة ومضنية على مدى تسعة أشهر بين ممثلين للإدارات العليا بين واشنطن وأنقرة وأفضت إلى شراكة جديدة حول موضوع محدد وواضح هو محاربة داعش ومشتقات القاعدة. وبما أن بنود الاتفاق الأمريكي التركي لا تزال طي الكتمان - وربما تبقى لوقت غير قصير - فمن المحتمل أن يكون الأتراك قد وصلوا إلى شيء في شرطهم السابق للانضمام للتحالف الدولي الذي رفضته الولايات المتحدة وهو من شقين: استبعاد الأسد من أي حل في سوريا وضرورة إنشاء منطقة عازلة لا شأن للأكراد السوريين بها. الشيء المؤكد أن تجزئة المشاكل وتصفير المشاكل مع دول الجوار كان عاملاً مهماً في صعود حزب العدالة والتنمية ووصوله للسلطة، ومما لا شك فيه أن قادة الحزب المحنكين لن يفرطوا به بسبب قضايا قد لا تهم الشعب التركي في الانتخابات القادمة مبكرة أو في موعدها لأن السياسة هي فن الممكن مهما كانت الوعود نبيلة وصادقة. حزب العدالة والتنمية هو حزب يمين وسط على غرار الأحزاب المسيحية الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا - كما كان يقول عبدالله غول وطيب أردوجان. محلل سياسي
مشاركة :