تُعاني سابع أكبر قوة اقتصادية على مستوى العالم من بوادر ركود حاد، حيث تشهد البرازيل مشكلات عميقة في اقتصادها، ولا سيما فضائح الفساد الضخمة التي نالت شركة النفط الوطنية «بتروبراس» وامتدت عبر شركات كبرى أخرى وإلى الأوساط السياسية. فبعد ربعين متتاليين من النمو، عادت البرازيل لتُسجل انكماشا في الربع الأول من عام 2015، مدفوعًا إلى حد كبير من تقلص معدلات الاستهلاك التي سجلت أسوأ نتيجة منذ الربع الرابع من عام 2008. وتراجعت الثقة في الأعمال التجارية إلى مستوى قياسي منخفض في يونيو (حزيران). واتجهت توقعات الناتج المحلي الإجمالي في البلاد مرة أخرى إلى الانكماش، حيث تأتي توقعات الحكومة والقطاع الخاص معًا بتسجيل انكماشًا بنسبة 1.2 في المائة خلال العام الحالي، وستكون هذه أسوأ نتيجة للبرازيل منذ عام 1990. وفي عام 2016، يتوقع معهد الإحصاء الوطني بالبلاد أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي نموًا بنسبة 0.33 في المائة فقط. وكانت البرازيل قد شهدت تباطؤًا اقتصاديًا ملحوظًا خلال السنوات الأربع الماضية، بعد أن حققت نجاحًا كبيرًا مقارنة بالاقتصادات الناشئة الأخرى، لتحول كثير من فقرائها إلى الطبقة الوسطى. وفي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2015 نما الاقتصاد البرازيلي بنسبة 0.2 في المائة وفقًا للمعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء. وجاء التدهور نتيجة للأداء السيئ لقطاع الخدمات والصناعة، فضلاً عن انخفاض استهلاك الأسر. وتأكيدا على حالة الانكماش التي تعاني منها البرازيل، تشهد الصناعات البرازيلية عددا من التحديات خلال الفترة الراهنة، حيث اتخذت ما يقرب من 60 في المائة من الشركات في قطاع الصناعات التحويلية في البرازيل خطوات في الأشهر الأخيرة للحد من الإنتاج، بما في ذلك تسريح العمال وإجبار الآخرين على إجازة إجبارية، وفقًا للاتحاد الوطني البرازيلي للصناعة. وتقول دراسة صادرة عن الاتحاد الوطني للصناعة «CNI»، والتي اطلعت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، إن أكبر التخفيضات في استخدام اليد العاملة كانت في قطاع السيارات، حيث وضعت 78 في المائة من الشركات خططًا للاستغناء عن الموظفين بصفة دائمة أو مؤقتة أو تخفيض ساعات عملهم. وقال «CNI» إن نحو 73 في المائة من الشركات في المجالات ذات الصلة بالنقل، مثل الطيران وبناء السفن، اعتمدت التدابير ذاتها من أجل تخفيض العمالة. ووفقًا لرئيس معهد الصلب في البرازيل ماركو لوبيز، تشهد صناعات الصلب والصناعات التحويلية أكبر أزمة في تاريخها، قائلاً: «هذه أزمة قوية جدًا ومختلفة عن عامي 2008 وعام 2009»، فمن المتوقع أن يتراجع إنتاج الصلب الخام في البرازيل إلى 32.8 مليون طن هذا العام وذلك بانخفاض قدره 3.4 في المائة عن العام الماضي، وفقًا لتقديرات معهد أكو البرازيل (معهد الصلب). ومن المتوقع أن ينخفض حجم المبيعات المحلية من الصلب بنحو 15.6 في المائة إلى 18.3 مليون طن. وأضاف لوبيز، في نشرة للمعهد اطلعت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، أن القضايا الهيكلية والدورية أجبرت هذه الصناعة على استخدام طاقتها الإنتاجية عند مستوى منخفض للغاية. وقال: «يجب أن تعمل الصناعة على 80 في المائة من القدرة المركبة، ولكنها تعمل عند 69 في المائة فقط، وهو أقل بكثير مما يمكن أن يكون معقولاً». وأشار لوبيز إلى أنه سيكون هناك فصل لنحو 11.188 ألف موظف وتعليق عقود نحو 1.397 مليون في ضوء الأزمة الراهنة التي يعاني منها القطاع. وتمر «أودبريشت»، شركة البناء البرازيلية العملاقة، وعدد من القطاعات الأخرى التابعة لها بحالة اضطراب كامل، إذ تم اعتقال رئيسها، مارسيلو أودبريشت، وعدد من المديرين الآخرين في المجموعة في 19 يونيو الماضي، في سياق فضيحة الفساد الواسعة داخل مجموعة «بتروبراس» النفطية. وكانت سويسرا قد فتحت تحقيقًا ضد «بتروبراس» في أبريل (نيسان) عام 2014، وتتعلق أحكام الإدانة بتهم تخص محاولات للتلاعب في عملية المنافسة على العقود في «بتروبراس». وسجلت «بتروبراس» خسائر بلغت 6.2 مليار ريال في عام 2014، وتعتبر «بتروبراس» أكبر شركة في البرازيل بإيرادات تبلغ نحو 140 مليار دولار سنويًا. ونتاجًا للاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد، أعلنت رئيسة البرازيل ديلما روسيف في وقت سابق من الأسبوع الماضي عن تخفيضات جديدة في الميزانية بقيمة 8.6 مليار ريال برازيلي (2.6 مليار دولار)، وذلك بعد خفض الميزانية في مايو (أيار) الماضي بمقدار 70 مليار ريال. وفي هذا الإطار، خفضت الحكومة البرازيلية أهدافها الخاصة بتحقيق فوائض مالية خلال موازنات العام الحالي والقادم، نتيجة التراجع في عائدات الضرائب، وأعلن وزير المالية جواكيم ليفي خفضًا جديدًا للإنفاق في مُحاولة منها لتأكيد التزامها التقشف في ظل التراجُع الاقتصادي الحاد. وبعد أن كان الهدف هو الوصول بالفائض المالي للبلاد للعام الحالي لنحو 20.6 مليار دولار بما يُعادل 1.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، قلصت الحكومة أهدافها ليبلغ الفائض 2.7 مليار دولار فقط بما يوازي 0.15 في المائة من الناتج الإجمالي للبلاد. كذلك خفضت الحكومة أهدافها للفائض المالي لعام 2016 ليُعادل 0.7 في المائة، بعد أن كانت تستهدف الوصول بالفائض إلى ما يُعادل 2 في المائة مِن إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. وتتزايد المخاوف من مواجهة البرازيل لمخاطر خفض الائتمان، إذ تنظر الأسواق ووكالات التصنيف الائتماني إلى الفائض المالي للبرازيل باعتباره مقياسًا لقدرة الدولة على سداد ديونها. وسبق أن حذرت وكالات التصنيف الائتماني من أنها قد تُخفض من درجات تصنيف المستوى الاقتصادي للبرازيل، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع ثقة المستثمرين وارتفاع تكاليف الاقتراض. وحذر بنك «سوسيتيه جنرال» من أن فضيحة الفساد بشركة الطاقة العملاقة «بتروبراس» التي تسيطر عليها الدولة وتدهور الحسابات المالية بالبلاد، يمكن أن يُعرض البرازيل لخلل كبير مما يُقلل من تصنيفاتها الائتمانية من قبل وكالات التصنيف العالمية. وقال البنك، في مذكرة بحثية اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، إن فضائح الفساد والمخاطر السياسية وتدهور البيئة الخارجية مع اقتراب بنك الاحتياطي الفيدرالي من رفع أسعار الفائدة، فضلاً عن تدهور الحسابات المالية والنمو المتعثر يجعل البرازيل على حافة فقدان الدرجة الاستثمارية خلال الأشهر القادمة وسط توقعات بأسوأ ركود اقتصادي في ربع قرن. وسبق أن خفضت «ستاندرد آند بورز»، وكالة التصنيف الائتماني العالمية، التصنيف الائتماني للبرازيل في مارس (آذار) 2014 إلى مستوى واحد أعلى من غير المرغوب فيه. وتبعتها وكالة «موديز» لخدمات المستثمرين بعد ستة أشهر من خلال خفض توقعاتها لتصنيف البرازيل من Baa2 إلى سلبية. وقالت الشركتان إن تقييمات تدهور الحسابات المالية والنمو المتعثر كانت وراء قراراتهما. ومنذ ذلك الحين، ساءت حظوظ البرازيل. ارتفع العجز لمدة 12 شهرًا إلى 0.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في مايو الماضي. وفي حين حققت الحكومة البرازيلية بعض التقدم في جدول أعمالها المتعلقة بالتدابير المالية وخطة إعادة النظر في الهدف الفائض المالي، تُسلط «فيتش»، وكالة التصنيف العالمية، الضوء على الصعوبات التي تواجهها البرازيل وسط الركود. وتقول «فيتش»: «بالإضافة إلى اضطرابات الميزانية وتباطؤ الاقتصاد، تعاني البرازيل أيضا من ارتفاع معدلات التضخم، فضلاً عن المخاطر الخارجية المتعلقة باحتمال حدوث تباطؤ للاقتصاد الصيني ورفع معدلات الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي الذي من شأنه أن يزيد من قوة الدولار مما يُحدث اضطرابات واسعة النطاق للريال البرازيلي»، فقد ارتفع معدل البطالة في البرازيل خلال يونيو الماضي إلى 6.9 في المائة، وهو أعلى مستوى له منذ 2010، وذلك بعد أن وصل المعدل إلى أدنى مستوياته عند 4.3 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وفقًا للمعهد البرازيلي للجغرافيا والإحصاء. وهذا يعني أن 298 ألف شخص فقدوا وظائفهم خلال عام واحد، وهي أسوأ نتيجة منذ بدأت الحكومة في تسجيل هذه السلسلة في عام 2002. وتعتبر الضغوط التضخمية أيضًا واحدا من التحديات الكبرى التي تواجه الحكومة البرازيلية، ويقول مدير السياسات الاقتصادية بالبنك المركزي البرازيلي لويس بيريرا في تصريحات معدة سلفًا نشرت على موقع البنك على الإنترنت: «على الرغم من بعض النتائج الإيجابية التي لا يمكن إنكارها، تُبين التطورات الأخيرة أن هناك مخاطر جديدة لنتائج التضخم قد تؤثر على آفاق النمو على المدى الطويل»، فحتى منتصف يوليو (تموز) الحالي، انخفض معدل التضخم إلى 0.59 في المائة، وفقًا لمكتب الإحصاء البرازيلي. وهذا المعدل أقل بكثير من بيانات شهر يونيو الماضي، حيث تم تسجيل 0.99 في المائة، لكنه لا يزال يُسجل أعلى معدل منذ عام 2008. ويظل معدل التضخم السنوي على مدى 12 شهرًا أعلى بكثير من الهدف الرسمي البالغ 4.5 في المائة، والذي تسارع إلى 9.23 في المائة من 8.80 في المائة في منتصف يونيو، وفقًا لاستطلاع المكتب الإحصائي. وقدرت التوقعات الرسمية، الصادرة عن البنك المركزي في البرازيل خلال الأسبوع الماضي، معدلات التضخم لتصل إلى 9.15 في المائة في عام 2015، ليرتفع التقدير للمرة الرابعة عشرة على التوالي. ووفقًا للبنك، إذا تأكد ذلك التوقع فسيكون ذلك أعلى معدل للتضخم منذ عام 2003، حيث سجل معدل التضخم نحو 9.3 في المائة. * الوحدة الاقتصادية بـ«الشرق الأوسط»
مشاركة :