تزييف الحقائق لا يعني تعافي "الرجل المريض" | حكيم مرزوقي | صحيفة العرب

  • 9/1/2020
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

الحلم الأردوغاني القائم على إعادة إحياء الخلافة العثمانية، لم يترك بابا إلاّ وطرقه، ولم يوفر وسيلة إلاّ وامتطاها في سبيل إقناع الذات - قبل الآخر- بأن لا مناص للعالمين العربي والإسلامي إلاّ في السير على خطى مؤسسي تلك الدولة التي قامت في القرن الثالث عشر على يد عثمان الأول، ابن أرطغرل بن سليمان شاه، زعيم قبيلة قايي، وهو من أتراك الأوغوز المسلمين (التركمان). استحضار “مجد الإمبراطورية العثمانية” هوس شخصي لدى رجب طيّب أردوغان، الذي يحلو له أن يحيط نفسه بأبّهة السلطان بين أتباعه في مراسم عديدة، وبشكل كاريكاتوري ماسخ، لذلك نراه يجنّد كل شيء في سبيل هذه الكذبة التي يسوّقها على طريقة جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في الحقبة النازية، ضمن ما يُعرف بمصيدة احتلال العقل والوعي. ولأن هذه الدونكيشوتية المرضية تحتاج إلى “بلاغة” يصدّقها أتباع وأغرار وحمقى، فإنه من الطبيعي أن يأمر أردوغان بإقامة ورشات عمل تعتمد على حفريات وهمية تزيّف التاريخ وتجيّره لمصالح فئوية مستهدفة صغار العقول وضعاف النفوس عبر العزف على أوتار النخوة والكرامة والثأر للأمّة من خلال قادة عثمانيين يتم مزجهم وتقريبهم من شخصيات تاريخية ضمن منطق تلفيقي يسعى إلى تزييف التاريخ وتفخيخه باسم الدراما التلفزيونية. ولعل خير دليل على ذلك ما ورد في المسلسل التركي “قيامة أرطغرل”، إذ يحاول المؤلف إثبات وجود علاقة حميمة بين أرطغرل والشيخ محي الدين بن عربي، في حين أن لا دلائل قاطعة على ذلك بل لم يلتق الرجلان أصلا، فابن عربي مات بعد وفاة سليمان شاه بعامين فقط، كما أنه عاش في دمشق سنوات عمره الأخيرة (15 عاما). السم في الدسم زجّ النظام التركي بالصناعة الدرامية في أتون معاركه السياسية شرقا وغربا دون احترام للتاريخ أو الجغرافيا أو حتى أبسط قواعد المنطق البشري، وجعلها رأس حربة في نشاطه المبشّر بتعافي “الرجل المريض” وعودته إلى مسرح الأحداث الذي سوف “يملأه حقا وعدلا ومناصرة للمظلومين”. ولأن الحرب خدعة، اصطياد لنقاط الضعف ومحاولة مستمرة للتسلّل عبر الثغرات، فإن سياسة النظام الإخواني في أنقرة، قد أوجدت لها موطئ قدم في المشهد الإعلامي والتلفزيوني العربي الذي يتّصف بالترهل والجوع الدائم إلى ما يسدّ الرمق من ساعات بث تقع تحت رحمة المعلنين الذين ينجرون بدورهم نحو الذوق الهابط والاستهلاك السهل لكل ما يخاطب أدنى الغرائز وأكثرها سذاجة. السعودية كانت من أولى الدول التي منعت القنوات التابعة لها من بث المسلسلات التي تحرك الماكينة الدعائية التركية عمليا، بدأت محاولات التغلغل الدرامي الأردوغاني في العالم العربي من مسلسل “وادي الذئاب”، الذي مثّل خلطة بقيت سارية المفعول وتشدّ مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية لما حوته من تشويق وإثارة ومطاردات في قالب يدعي الانتصار للقيم الإسلامية التي يدّعي النظام بدوره المحافظة عليها. وجاء بعد ذلك “حريم السلطان” بمختلف أجزائه، دون أن تتفطّن دول عربية كثيرة إلى ذلك السمّ الذي يدسّ في الدسم، فشاهدنا تكريمات لنجوم المسلسل في محطات كثيرة، إلى أن بدأت الآلة الدعائية الإخوانية تكشّر عن أنيابها في أعمال لاحقة ووقع الكشف عن المستور بعد أن تبيّن -وبالأمر الواضح- أن هذه الأعمال ليست إلاّ دعائية سياسية لنظام أردوغان الذي ضخّ لها الأموال وسوّقها كي تدبلج إلى لغات عديدة وتصبح الخبز اليومي على موائد جميع المجتمعات الإسلامية من موريتانيا إلى باكستان التي بدأ تلفزيونها الرسمي، وبتعليمات من رئيس وزرائها عمران خان، في رمضان الماضي في عرض مسلسل “قيامة أرطغرل” مترجما إلى اللغة الأردية. كما يشهد هذا البلد الذي يهدّده التطرف الديني هستيريا جماعية تتمثل في متابعة هذا المسلسل الذي يُطلق الناس أسماء شخصياته على مواليدهم، ويرون أنه “سطّر صفحات مشرقة ومشرفة في التاريخ الإسلامي، وبعث الله من ذريته أشخاصا حكموا دولة من أعظم الدول الإسلامية”. السعودية كانت من أولى الدول التي منعت القنوات التابعة لها بث هذه المسلسلات التي تحرك الماكينة الدعائية التركية وقطعت الطريق أمامها، ممّا أثار غيظ الجهات الإعلامية المقربة من أردوغان، ومن خلفها منابر عربية حليفة، لتبيان حجم الخسائر المادية والمعنوية التي منيت بها القنوات السعودية جراء قرارها، بينما يرى نقاد ومراقبون عرب أن ما أقدمت عليه المملكة يمثل خدمة مزدوجة المنفعة، تتمثل في الوقاية من خطر الإعلام الإخواني من جهة أولى، وتشجيع وإتاحة الفرصة أمام دراما عربية بديلة من جهة ثانية. سذاجة الطرح النظام التركي زجّ بالصناعة الدرامية في أتون معاركه السياسية دون احترام للتاريخ والجغرافيا وقواعد المنطق البشري النظام التركي زجّ بالصناعة الدرامية في أتون معاركه السياسية دون احترام للتاريخ والجغرافيا وقواعد المنطق البشري الجانب التركي يمضي بدوره في مواصلة مشروعه الدعائي “مزدوج الربح” من وجهة نظره، وذلك عبر دعاية تنفق على نفسها بنفسها بفضل وفرة العرض والطلب. فبحسب التقديرات، تتوقّع تركيا زيادة الإنفاق على هذا القطاع بما يصل إلى مليار دولار، بحلول العام 2023، فيما يصدر الإنتاج الدرامي إلى 140 دولة حول العالم، وتبلغ إيراداته السنوية 350 مليون دولار. لكن هناك من يقول إن هذه الأرقام مبالغ فيها، ويهدف مروّجوها من خلالها إلى تضخيم الدعاية عبر اتباع أسلوب التزييف والكذب أسوة بمحتوى الدراما التركية نفسها. أصغر المهتمين بالشأن الدرامي وأقلهم خبرة وإحاطة يقرّ بأن الدراما التركية هزيلة وضعيفة إلى حد السذاجة، سواء كان ذلك على مستوى المضمون الحكائي أو الشكل الفني المعني بكيفية التناول وتقنية المعالجة، حتى أنها لا ترقى إلى النموذج الهندي الذي عادة ما يسخر الناس من نمطه الميلودرامي. ولعل السبب الوحيد الذي جعل المشاهد الباكستاني يفضل الإنتاج التركي على نظيره الهندي في السنوات الأخيرة، هو تلك الأسلمة التي نجحت الدراما الأوردوغانية في زرعها وتثبيتها لدى بسطاء الناس في باكستان من الذين دغدغت مسلسلات السلاطين العثمانيين مشاعرهم الدينية وحركتها في الاتجاه الخاطئ. كل هذا ناهيك عن الأخطاء والمغالطات التاريخية التي لا تغتفر، سواء كان ذلك على مستوى التحقّق من الشخصيات أو توثيق الأحداث والوقائع. ويبلغ الأمر في هذا التزوير الصارخ للتاريخ حد الجريمة التي تعاقب عليها القوانين والأعراف الدولية. دعاية أردوغانية تبالغ في تمجيد السلاطين العثمانيين وتبرئتهم ممّا ارتكبوه من مظالم ومجازر دعاية أردوغانية تبالغ في تمجيد السلاطين العثمانيين وتبرئتهم ممّا ارتكبوه من مظالم ومجازر ولا يتعلق الأمر هنا بمقتضيات الضرورة الدرامية التي تسمح بإدراج شخصيات نموذجية لأنماط اجتماعية يفترض وجودها وفق قراءات سوسيولوجية لأنماط معاصرة وشاهدة على الأحداث، لكنها لا تصنع تلك الأحداث أو تلوي أعناقها في اتجاه ما لم يحدث. الدعاية الأردوغانية في الدراما التركية لم تقف عند حدود المبالغة في تمجيد السلاطين العثمانيين وتبرئتهم ممّا ارتكبوه من مظالم ومجازر بل تعدتها إلى تجاهل العناصر الأخرى من مكونات المجتمع، لا بل الإساءة إليها وإلى ثقافاتها في أطروحات تنضح عنصرية وتكبرا وازدراء للآخرين. أما على المستوى التقني فجاء الأداء التمثيلي باهتا ومفتقرا للابتكار وطزاجة الارتجال لدى جموع من المؤدين ومجاميع من الكومبارس يتحركون بطرق آلية أمام كاميرات تكتفي بالتصوير لأجل التصوير، وتخزّن في ذاكرتها إضاءة اعتباطية لا تتعدّى وظيفة الإنارة، مع ثياب فلكلورية متحفية تنقصها الدراسة وحتى الشرط التاريخي في أحيان كثيرة. مسلسلات لم تخلص حتى لمتحفيتها ولم تنقل حتى غرائب وطرائف وأسرار القصور بل تخاطب كل ما هو عدائي ومتوثب للقتال وسفك الدماء في نفوس المعقدين والمغرّر بهم من البسطاء. بعد “قيامة أرطغرل” يأتي “عثمان الأول” والحبل على الجرار على ما يبدو، فهل يأتي “أردوغان” كآخر الأجزاء، خصوصا وأنهم يحضرون لقصة القرصان “خير الدين بربروس”.. وللمتلقي أن يستنتج العبرة من خلال ما يحدث اليوم في عرض المتوسط.

مشاركة :