عوار تربوي وسقم شعبي وعيب ديموقراطي وهزل قانوني وإقرار لا داعي له كونه متجذراً في العرف ومتأصلاً في الوجدان ومتمكناً من المشاعر وغنياً عن التعريف. تعريف «حسن النية» الذي أجهد رجال الدين وأنهك رجال القانون وأسعد رجال النسبية تُعاد صياغته في مصر هذه الأيام في دهاليز صناع القوانين وكواليس معارضة القوانين ومقاعد مراقبي هؤلاء وأولئك. ومن على مقعد حديد متهالك في كشك خشبي متآكل قال المواطن كلمته: «حسن النية لا يحتاج إلى قانون ولا من يحزنون. اللي نحبه نبلع له الزلط، واللي ما نحبه نطلع عين اللي جابوه». القاعدة العرفية التي استند إليها المواطن في تحليله العميق لقانون «حسن النية» المزمع إصداره لحماية المسؤولين معضدة بقاعدة فيزيائية ابتدعها اينشتاين تسمى «النسبية»، فما يبدو لمواطن تصرفاً مبنياً على حسن النية من قبل مسؤول أو وزير أو قيادي يبدو لآخر تصرفاً كارثياً لا يجدي معه حسن نية ولا دفع دية. ولما كانت الأنظمة المتوالية بحكوماتها المتعاقبة ظلت تعمل بالمثل الشعبي القائل: «اللي تعرف ديته اقتله»، فقد جرى العرف الحكومي على أن الرئيس لا يحاسب لأنه لم يكن يرحل إلا برحيله عن الدنيا والوزير لا يعاقب لأن الكلمتين «وزير» و «عقاب» لا تمتزجان. ومع بزوغ صرعة محاسبة الوزراء والهتاف برحيل الحكومات والمطالبة بإقالة المسؤولين، وهي الصرعة التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، ضمن الآثار الجانبية المحمودة لرياح الربيع التي هبت في كانون الثاني (يناير) 2011، فقد بدأت المناصب الوزارية تعاني ركوداً وتشكو جموداً. وبعدما كانت الجموع تقدم نفسها باعتبارها «عبده مشتاق»، باتت الجموع تتقدم خطوة وتتقهقر تسعاً أمام عرض المناصب وحديث الكراسي. وبدت متلازمة كراسي الوزارة الـ «تيفال» التي تمنع التصاق الوزير بها و «الأيادي المرتعشة» تعبر عن نفسها بوضوح لا تخطؤه عين، لا سيما حين تكون عين المواطن الثاقبة مراقبة محللة. وحلل كثيرون تطاير أنباء عن إصدار قانون «حسن النية» بأنه أشبه بالمقويات والفيتامينات التي بات المسؤولون في حاجة إليها في ضوء تحول 86 مليون مصري إلى مراقبين ومحاسبين ومعارضين بحسب الأهواء، وهو ما أرعش الأيادي وأوجل القلوب وأبطأ الخطوات، وأرجعها آخرون إلى درء خطر الأجواء الشعبية المستنفرة جراء اللسعة العنيفة التي أصابت المصريين من «شوربة» عام من حكم «الإخوان»، وهو ما قد يدفعهم إلى النفخ في «زبادي» ما هو قادم، ورجح فريق ثالث أن يكون القانون المقترح أشبه باستغلال لاستعداد المصريين لإعادة ترتيب الأولويات وتأجيل طلبات الحريات وتجميد أحلام المساءلة والمكاشفة والمحاسبة إلى حين عودة الأمن واستعادة الأمان وتحقيق قدر من الاطمئنان، وهو ما يعني التغاضي الطوعي عن تحصين الوزراء وافتراض حسن نيات «الكبراء». افتراض حسن النية أدخل مصر في غياهب التاريخ ودهاليز الثقافة الشعبية وخفايا الشخصية المصرية، فافتراض حسن النية دفع بالملايين إلى الهتاف «ارفض ارفض يا زكريا، عبدالناصر مية مية» حين قرر الراحل جمال عبدالناصر التنحي عن الحكم متنازلاً لزكريا محيي الدين في أعقاب «نكسة 1967». وهو الذي جعلهم يرفعون صور الراحل أنور السادات بعد 33 عاماً من اغتياله باعتباره بطل الحرب والسلام مفترضين حسن نيته في توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل. وهو الذي أقنع بعضهم بالاستمرار في الدفاع عن الرئيس السابق حسني مبارك عبر جماعات مباشرة مثل «آسفين يا ريس» أو غير مباشرة تترحم سراً وعلناً على أيامه مفترضة في أفعاله «حسن النية». ويشهد التاريخ القديم والحديث والآني بأن المصريين يحاكمون رموزهم محاكمات شعبية أنجز وأسرع من تلك التي تشهدها قاعات المحاكم. فهم الذين حاكموا مبارك قبل محاكمته وأصدروا عليه حكماً بالإسقاط من التاريخ في زهو أيام الثورة الأولى، وهم الذين غفروا له بعضاً من ذنبه بعدما تسللت إليهم مشاعر ترجح أنه ربما فعل ما فعل بحسن نية. وكم من عبارة مثل «مبارك لا يحاكم على آخر عشر سنوات من حكمه. كانت زوجته وجمال (ابنه) الحاكمين الفعليين»، «يشفع له دوره في حرب أكتوبر»، «يكفي أنه بنى الجسور وحفر الأنفاق»، «كان يسرق لكن كنا عايشين». عيشة المصريين في العام ونصف العام الماضيين أصلت قيمة «حسن النية» والنسبية في عقيدتهم في شكل غير مسبوق. فكم من مواطن انتخب «الإخوان» أعضاءً في البرلمان أو في الشورى أو في الرئاسة افتراضاً لـ «حسن النية» ولأن «الناس بتوع ربنا» على الأرجح أفضل «نسبياً» ممن سبقهم. وكم من مواطن نأى بنفسه عن اختيار «الناس بتوع ربنا» افتراضاً لسوء النية، وهو الافتراض الذي كشر عن أنيابه على مدى أشهر من اجتماعات مجلس الشعب المنحل وعام من حكم محمد مرسي. مرسي الذي اشتهر بأحاديث الحب والأحضان قوبل بعاصفة من سوء النية قوامها الاستنكار والشجب والتنديد والسخرية من قبل جموع تقابل تأكيد وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي أن «مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا» وسؤاله «أنتم ما تعرفوش إنكم نور عينينا؟» وجزمه بـ «تقطع ايدينا قبل ما تتمد على مصري» بكثير من الإعجاب والانبهار والحب وافتراض حسن النية. ويظل حسن النية لدى البعض سوء نية بالنسبة إلى البعض الآخر في التركيبة المصرية، حيث لا صوت يعلو على صوت المشاعر. فمشاعر أنصار «الشرعية والشريعة» مركبة بطريقة تفترض سوء النية في كل ما هو غير «إخواني»، ومشاعر أنصار مصر باتت مركبة بطريقة تفترض سوء النية في كل ما هو «إخواني». حسن النية المستقطب يعني أن القانون الجدلي عن تحصين نوايا الوزراء ليس إلا زوبعة في فنجان. فالفنجان ينضح بموروث ثقافي يغفر الكوارث لمن يحب، ويتعسف في الصغيرة قبل الكبيرة لمن يكره. ورغم أن المصريين نشأوا على مقولة «القانون لا يحمي المغفلين»، إلا أن الموروث الشعبي قادر على حمايتهم. ورغم أن القانون المرتقب يفتح أبواب الجدل القانوني والسفسطة السياسية على مصاريعها، فإن أبواب الحكمة الشعبية حسمت أمرها. «اللي نحبه نبلع له الزلط» والعكس صحيح، أو كما يقترح المواطن نفسه: «إن كان ينبغي إصدار قانون فليكن لحماية المستهلكين بدل المسؤولين».
مشاركة :