«جبل بحيص» يروي عصور ما قبل التاريخ

  • 9/3/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عند زيارتك لمنطقة «البحيص» في المنطقة الوسطى بإمارة الشارقة، تشعر وكأنك محاط بظلال وأطياف تتخطّفك من كل الجهات، خصوصاً عندما تتجول قرب السفح الممتد على جوانب الجبل الأشهر في المكان، والذي يبدو أنه يرمم ذاته ويتنفّس الهواء العتيق لعصور غابرة تكالبت عليه، وسلالات بشرية متعاقبة استقرت قربه، فصار هذا الجبل بالذات علامة مشعّة لحيوات وأرواح وأجساد خاضت مغامرة الوجود بكل ما تمتلكه من عدّة بشرية مستندة على غريزة البقاء، والرغبة في إنشاء مجتمعات مُنتجة وحيوية ذات ثقافة دينية فطرية، وذات وعي جمعي بسيط ولكنه قادر في ذات الوقت على التكيّف مع الظروف البيئية، بمختلف جوانبها، وتحولاتها، وجموحها. إن اقترابك من حوافّ الجبل المهيب هذا، وملامستك لمنحدراته وأحجاره المكتنزة بالقدم، واستكشافك لكهوفه ومغاراته المتعطّشة للضوء، سيقحمك ومن دون تكلّف أو قصد في عالم افتراضي لا يمكنه أن يتخلّى عن واقعيته أيضاً، ولا عن نداءات بعيدة تصل إليك من عمق التاريخ، كي تتحدث نيابة عن آلاف الأرواح التي مرّت هنا، والتي عاشت صراعها الخاص مع ثنائية الموت والحياة، واخترعت طقوسها، وروّضت دهشتها، وبلورت خوفها إزاء عالم ما بعد الموت، ومجابهة المجهول الغامض المرتبط بالغياب الأبدي والأخير. أرض مقدّسة هناك تقريباً 15 كيلومتراً تفصل جبل بحيص عن منطقة مليحة الأثرية المعروفة بالشارقة، ما جعله جبلاً يحتضن تحت ظلاله العالية مكاناً محتشداً بخصوصيته، وأرضاً مقدّسة للموتى، وهذا الذي يكشف عنه الكتاب الصادر مؤخراً بنسخته العربية للدكتور صباح عبّود جاسم، مدير عام هيئة الشارقة للآثار، بعنوان «مدينة الموتى في جبل بحيص» والمعني بمكتشفات عصور ما قبل التاريخ في إمارة الشارقة، حيث يقتفي الدكتور صباح جاسم في الكتاب أثر ونتائج ومحتويات 91 قبراً اكتشفتها فرق التنقيب الأجنبية والمحلية التي عملت في منطقة البحيص انطلاقاً من خريف عام 1994 كجزء من البرنامج الأكثر شمولاً لعمليات المسح والتنقيب الأثري لعموم المناطق التابعة لإمارة الشارقة. ويشير الدكتور صباح جاسم في مقدمة الكتاب إلى أن جبل بحيص كان موضع تركيز من قبل الفرق الأثرية المتعاقبة منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين، عندما اكتشف فريق عراقي بقايا حصن حجري على قمة المنحدر الشمالي الشرقي للجبل، وفي عام 1990 قامت البعثة الأثرية الفرنسية بتنقيب مجموعة مكوّنة من سبعة هياكل كانت مرئية على المنحدر الجنوبي للجبل، والتي أسفرت ثلاثة منها عن وجود مواد تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد، بينما كشفت التنقيبات في منطقة المنحدر أسفل الحصن الحجري مباشرة عن وجود تسع مقابر مشوّهة بشدّة، ومواد محدودة تعود للعصر الحديدي. وحول أثر هذه الاكتشافات المبكرة والتي خلقت شرارة الفضول لدى فرق التنقيب المختلفة، واهتمامها تحديداً بجبل بحيص، يقول الدكتور صباح جاسم: «كانت أهدافنا الأولية في عام 1994 متواضعة وتنصبّ على دراسة وتأريخ بعض التكوينات الحجرية التي تبرز فوق السطح، بالقرب من سفح الجبل، ولم نتوقع أن هذا من شأنه أن يؤدي إلى حملة من عمليات تنقيبات منهجية، استمرت لاثني عشر عاماً متواصلة (1994 - 2005) ما أدّى لاكتشاف حوالي 91 قبراً من أنواع وتواريخ مختلفة، بما في ذلك الأمثلة المبنية والمخبأة تماماً تحت سطح الأرض، فضلاً عن عدد كبير من (المآوي الصخرية/‏‏‏‏‏ القبور) التي تم الكشف عنها على ارتفاعات مختلفة من سفح الجبل». توثيق طبيعة الحياة إن ما يقدمه كتاب «مدينة الموتى في جبل بحيص» من معلومات ثرية وغاية في الأهمية عن تلك الأزمنة السحيقة والمنسيّة، يعدّ كشفاً توثيقياً لطبيعة الحياة التي عاشها سكان الإمارات العربية المتحدة في الحقب المنتمية لعصور ما قبل التاريخ، ويعتبر جبل بحيص بذلك أحد الشواهد الدالة بقوة على عراقة المكان وتجذّره الإنساني خلال فترات مجهولة كان من الصعب التعرّف على ملامحها الاجتماعية والثقافية والدينية لولا جهود فرق التنقيب والمسوحات التي أماطت اللثام عن لقى أثرية تعد اليوم كنوزاً حضارية، وجواهر معرفية، وآثاراً ساطعة تعيد تشكيل حضورها الإنساني وقيمتها المعرفية، وتعمل مجدداً لإزالة الطبقة الزمنية الكثيفة عنها، واشتغالها تالياً ضد النسيان والمحو والتلاشي. والمثال الأوضح الدالّ على عراقة المكان والذي يخبرنا به الكتاب هو اكتشاف موقع لما قبل التاريخ في منطقة جبل بحيص، أطلق عليه (BHS 18)، لأنه اكتشاف ينطوي على أهمية قصوى بسبب نتائج الكربون المشعّ (14) التي أظهرت أن الموقع يعود إلى العصر الحجري الحديث للفترة ما قبل الفخارية (5200 - 4300 قبل الميلاد)، فالموقع عبارة عن مساحة واسعة من الأرض مخصصّة لأغراض الدفن، تحتوي على مئات الهياكل العظمية البشرية، البعض منها كان قد تم دفنها مع الزينة الشخصية، مثل المجوهرات المصنوعة من الصدف والحجر، ولآلئ المحار، وخرز العقيق، كما أن وجود «ينبوع المياه الحجري» القريب، كان السبب الرئيسي لوجود الموقع بهذه البقعة، كما عثر على دليل آخر يشير إلى وجود مستوطنات بشرية معاصرة أيضاً بالقرب من مدفن العصر الحجري. وتؤكّد المعلومات القيّمة الواردة في الكتاب أن المناخ البيئي كان مختلفاً مقارنة بزمننا المعاصر، وأن الطقس كان معتدلاً ومشجعاً على تكوين مجتمعات مستقرة اختارت ممارسة حياتها في منطقة البحيص خلال تلك العهود الغابرة. ويوضح الدكتور صباح جاسم أن توفّر المياه السطحية كان له دور حيوي لسكان العصر الحجري الحديث، كما أن بعض الأحافير التي عثر عليها في جبل البحيص تشير إلى وجود ينابيع نشطة كانت تتدفق في المنطقة، وتشير كذلك إلى وجود بحيرة في المكان، كتفسير لوجود الإنسان ما قبل الزراعة هنا، وذلك في فترة «الهولوسين». إن اختيار عنوان: «مدينة الموتى» لمنطقة جبل بحيص، هو عنوان متصّل مفهومياً وعضوياً بطبيعة المكتشفات الأثرية المرتبطة بطابع ديني وطقوسي يتعلّق بمراسم الدفن في عصور ما قبل التاريخ، ولعل اختيار هذا المكان تحديداً له دلالات ومؤشرات تحيل إلى عوامل محدّدة صنعت له طابعاً مقدّساً ذا أبعاد طوبوغرافية واجتماعية لها قيمتها وحضورها في الوعي الجمعي لسكانها القدماء، بعيداً عن تأثير العقائد السماوية التوحيدية التي انتشرت بعد عصور طويلة لاحقة. وكما يرد في الكتاب فإن اكتشاف مجموعة متنوعة من القبور على طول أطراف الجبل وبعض وديانه، يشير إلى أن الجبل كان أيضاً محوراً للأنشطة البشرية المقدسة حول كيفية التعامل مع الموت، وتكوين منظومة شعائرية لطقوس الدفن، فتخصيص هذه المنطقة حصرياً لأغراض الدفن، جنباً إلى جنب مع استخدامها المستمر على مدى أكثر من سبعة آلاف عام، يجعل استخدام مصطلح: «مدينة الموتى» مناسباً في هذا السياق. مقابر «فترة حفيت» ويرى الدكتور صباح جاسم أن وجود المقابر بهذا الشكل يدل أيضاً على احترام الموتى بعيداً عن أماكن الحركة اليومية النشطة للسكان القدامى وإلى وجود اقتصادات الواحات المستقرّة، مضيفاً أنه بعد 2500 قبل الميلاد لم تعد المدافن الجماعية موجودة في أماكن مرئية وواضحة، بل وجدت في المناطق السهلية والساحلية المنخفضة. قبر جماعي بأربعة مدافن مستقلة في البحيص قبر جماعي بأربعة مدافن مستقلة في البحيص وتتيح الصور الفوتوغرافية والرسومات التوضيحية المرفقة في الكتاب التعرّف على عدد كبير من القبور الباذخة في منطقة جبل البحيص، وهي القبور التي يشير المؤلف إلى دورها الاجتماعي المهم، فهي خدمت السكان ليس فقط في إيواء موتاهم، ولكن أيضاً في تكريمهم وحمايتهم في الحياة الآخرة، موضّحاً أن الأسئلة المتعلقة بالوفاة والحياة بعد الموت كانت من أهم الأسئلة الوجودية التي شغلت أذهان وعقول سكان جبل بحيص وسلوكهم خلال فترة حضارة وادي سوق. ويلفت الكتاب إلى أن فن العمارة الجنائزية الاستثنائية لبعض قبور وادي سوق، قد يرتبط أيضاً بالحالة الاجتماعية، والطقوس الدينية، فالقبر رقم 66 مثلاً ينطوي على تصميم فريد من نوعه، وغير مسبوق، حيث يشبه ورقة البرسيم، أو شكلاً مماثلاً لشجرة النخيل، فهو يحتوي على أربع غرف مستقلة للدفن، ما يعكس طبيعة العلاقة الاجتماعية الوثيقة بين أصحاب القبر، وهناك قبور احتوت على هدايا وقرابين، حيث تم العثور على بقايا خروف مدجّن في مستوى الدفن الثاني بالمقبرة رقم 12. وقد يشير هذا إلى ممارسة طقوس دينية تتضمن تقديم الأضاحي، وكانت التضحية بالحيوانات سمة واضحة بالمقبرة رقم 8 التي ضمّت هياكل بشرية وحيوانية مختلطة، وتشير مكتشفات المقبرة الجماعية الكبيرة رقم 18 إلى وجود عظام الحيوانات في القبور البشرية، ضمن ممارسة طقوسية مستمرة منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد تقريباً. العصر البرونزي ويشير المؤلف إلى أن العصر البرونزي الأخير خلال فترة وادي سوق تمثّل بقدر كبير من السلع الجنائزية المرافقة للموتى، بما في ذلك الأوعية الفخارية، والصحون والجرار والأكواب والأقداح، وأواني الحجارة الناعمة، والمصنوعات المعدنية، والأسلحة، وحليّ الزينة الشخصية، وغيرها من المستلزمات الحياتية التي كان السكان يعتقدون أنها تخدم الموتى في الحياة التالية بعد رحيلهم. ولاحظ الباحثون والمنقبّون وجود تحوّل كبير وتغيّر جذري لشكل القبور ومحتوياتها بمنطقة جبل بحيص في فترة العصر الحديدي الذي تلا عصر وادي سوق ومنها اختفاء سمات معينة سابقة، وظهور عناصر حضارية جديدة. وفي ملاحظة ختامية يشير الدكتور صباح جاسم إلى أن اكتشاف عناصر مادية غريبة عن المكان في جبل بحيص يؤكد على وجود تواصل قديم بين هذه المنطقة والعالم الخارجي خلال العصرين البرونزي والحديدي، وأن الاتصال مع بلاد وادي الرافدين يتجلّى في وجود فخاريات فترة (جمدة نصر) وفجر السلالات الأول والثاني، كما أن النصوص المسمارية من العراق القديم تظهر وبشكل لا لبس فيه أن مثل هذه التجارة القائمة عبر مسافات طويلة قد حدثت فعلاً بين بلاد وادي الرافدين ومنطقة ماجان، التي تمثلها اليوم دولة الإمارات العربية المتحدة، وشبه جزيرة عمان، كما تشير العديد من المواد المكتشفة إلى وجود اتصال مع شبه القارة الهندية، وحضارة دلمون بالبحرين، ومع جنوب شرق إيران. وفي نهاية هذا الكتاب الثري بمحتوياته العلمية والبحثية، والغني كذلك باستنتاجاته الثقافية والإنسانية، يختم المؤلف صفحات الكتاب بالقول إن منطقة جبل البحيص تمثّل اليوم معلماً أثرياً مهماً بدولة الإمارات وشبه جزيرة عمان، ومما لاشك فيه، أن استمرار استخدامها كمكان للدفن البشري لأكثر من سبعة آلاف عام، يشير وبصورة مؤكدة إلى أهميتها في حياة وعقائد ما بعد الموت لسكان المنطقة. العمارة الجنائزية وهدايا ما بعد الموت إن الإحاطة التفصيلية الواردة في الكتاب حول أنماط وتخطيطات القبور الكثيرة والمتنوعة في جبل بحيص تؤكد وفرة المواد الثقافية، وتقدم أمثلة رائعة للعمارة الجنائزية. ويعبّر هذا التنوع في شكل ومحتويات القبور عن عصور قديمة متناوبة، مثل العصر البرونزي (حضارة وادي سوق) في الألفية الثانية قبل الميلاد، كما تم توثيق شواهد تعود لفترة العصر الحجري الحديث من خلال اكتشافات مقبرة الألفية الخامسة قبل الميلاد في الموقع (BHS 18) بمنطقة البحيص، وفترة حفيت/‏‏ أم النار التي تمتد من نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد إلى نهاية الألفية الثالثة قبل الميلاد.

مشاركة :