لم تكد تمر سنوات قليلة حتى هدأت نار المعركة الأدبية التي أحدثها كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، وانصرفت الأقلام التي أسهمت فيها إلى معارك واهتمامات أخرى، لكن الرجّة التي أحدثها هذا الكتاب لم تتوقف عند حد، والحركة الأدبية التي بعثها سارت بعيداً في طريق التطوير الأدبي. كتاب في الشعر الجاهلي أصدره الدكتور طه حسين عام 1926، ثم أعاد إصداره عام 1927 بعنوان في الأدب الجاهلي بعد أن حذف منه فصولاً، وأضاف إليه أخرى، على إثر الضجة الهائلة التي حدثت حياله، ولم يوقف ذلك التعديل تلك الضجة، بل زادها ووسّع منها، وكان من شدة تأثير الآراء التي طرحها الكتاب، أنه في مدى السنوات الخمس التي تلت صدوره نشرت مئات المقالات التي تتناوله بالنقد والتحليل، وصدرت على الأقل ستة كتب رداً مباشراً عليه، هي تحت راية القرآن لمصطفى صادق الرافعي، ومحاضرات في بيان الأخطاء العلمية التاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي للشيخ محمد الخضري، ونقض كتاب في الشعر الجاهلي للشيخ محمد الخضر حسين، ونقد كتاب الشعر الجاهلي لمحمد فريد وجدي، الصادر عن مطبعة دائرة معارف القرن العشرين بمصر 1926، والشهاب الراصد للدكتور محمد لطفي جمعة، عن مطبعة المقتطف والمقطم بمصر 1926، والنقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي لمحمد أحمد الغمراوي، عن المطبعة السلفية 1929. تقوم فكرة في الشعر الجاهلي على فرضية أعلن عنها طه حسين في مقدمته وهي إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً، ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء، أن ما تقرأه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة، ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو نحل الرواة واختلاق الأعراب، أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين. وقد سعى طه حسين إلى إثبات هذه الفرضية بطرق عدة: أولاها دراسة أوضاع العرب قبل الإسلام، ودراسة اللهجات العربية السائدة والروايات التاريخية المتعلقة بالنحل، والنصوص الشعرية الجاهلية ومدى مطابقتها لحقيقة الواقع الجاهلي، والمقارنة بين ما يصفه القرآن عن ذلك العصر، ووصف الشعر الجاهلي له، ليخلص في النهاية إلى إثبات نظريته في أن الشعر الجاهلي لا يمثل العصر الذي ينسب إليه، وإنما نحله من طرف رواة العصور اللاحقة لأغراض سياسية واجتماعية. لم تصمد فرضية طه حسين أمام البحث الدقيق، وقد أثبت النقاد خطأها من الناحية العلمية، وعدم إمكانية إثباتها منهجياً، وأخذوا عليه أغلاطاً تاريخية وتناقضاً منهجياً بيّناً. وقد صدرت منذ ذلك الوقت وإلى اليوم عشرات الكتب الرصينة التي ردّت بشكل مباشر أو غير مباشر على أطروحات طه حسين، وأثبتت صحة نسبة الشعر الجاهلي إلى عصره، وقللت من شأن النحل فيه، ومنها على سبيل المثال كتاب مصارد الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية للدكتور ناصر الدين الأسد الذي صدر في الخمسينات من القرن الماضي. لكنّ الشيء الذي ميّز كتاب طه حسين، وفرض على منتقديه أن يأخذوا به، هو الطريقة المنهجية التي تناول بها قضية النحل في الشعر الجاهلي، فقد كان منهج طه حسين ثورة في مجال دراسة تاريخ الأدب، وقطيعة كلية مع المنهج القديم الذي كان لا يزال سائداً في تلك الحقبة، وهو منهج الرواية، فقد كان تاريخ الأدب روايات يرويها اللاحق عن السابق، بقطع النظر عن الواقع الذي نشأت فيه تلك النصوص، ودون النظر إلى النصوص نفسها ومدى ملاءمتها لعصرها. قلب طه حسين هذا المنهج رأساً على عقب، وانطلق في دراسته من منهج علمي يعدّ الظاهرة الأدبية، أو الإنسانية عموماً، ظاهرة معقدة تتآلف أسباب عدة لنشأتها، ولا ينبغي ردها إلى سبب واحد، فالنص الأدبي لا بدّ أن يعكس ظروف عصره الذي قيل فيه، من الناحية السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية واللغوية، وإذا لم يعكس تلك الظروف، فلا يمكن أن تصحّ نسبته إلى عصره. يمكن استخلاص ثلاثة مفاصل كبرى في هذا المنهج العلمي الذي اتبعه طه حسين وهي: دراسة ظروف النص، ودراسة النص من الناحية الأسلوبية واللغوية، ومقارنة النص بنصوص صحيحة أخرى من حقبته نفسها، وعلى ضوء ذلك يتمّ قبوله أو رفضه، وهذه المنهجية كانت جديدة كل الجدة لم يعرفها مؤرخو الأدب العربي - رغم أن المستشرقين قد بدأوا بها منذ القرن التاسع عشر، إلا أن انقطاع الصلة بين المستشرقين والدارسين العرب، قلل من رواج منهجهم العلمي في الدراسات لدى العرب - فكان طه حسين هو رائد هذا المنهج، وأمامه بدا المنهج القديم القائم على إثبات النصوص الأدبية بالرواية المجردة قاصراً، واضطر ناقدوا طه حسين إلى اتباع الخطوات المنهجية نفسها، والأخذ بالأسباب نفسها المتعددة للرد عليه، ومنذ ذلك الوقت تسربت مناهج الدراسة العلمية إلى الأدب العربي وانتشرت، ولذلك يمكن عدّ كتاب في الشعر الجاهلي كتاباً مفصلياً في تاريخ الدراسات الأدبية العربية.
مشاركة :