تتشكل تجارب العديد من الشعراء في المشهد الإبداعي الإماراتي على محورين، الأول، القصيدة الشعبية بكل ما تحمله من خصوصية لها علاقة بالمكان، وتاريخه، وتراثه، ولغته، والثاني؛ القصيدة الفصيحة أيضاً بما تمتاز به من شكل، وبناء، ولغة وعناصر، وفضاء، ومزاج، إذ تنكشف هذه الظاهرة عند العودة إلى مجمل التجارب الشعرية الفاعلة في الحراك الشعري الإماراتي، وعند العودة إلى إصداراتهم، وأمسياتهم الشعرية، ونصوصهم المنشورة في الصحف والدوريات الثقافية. تفرض هذه الظاهرة جملة من التساؤلات على الشعر الإماراتي، منها ما يتعلق ببناء النص، ولغته، ومنها ما يتعلق بمفهوم الحداثة، وشكلها في القصيدة الإماراتية، وآخر حول مفهوم القصيدة الشعبية في الذاكرة الجمعية للمثقف الإماراتي، فهل تشكّل أثرٌ ملموس لكل نوع شعري على الآخر؟، وهل انتج هذا التفاعل ظواهر وعلامات فارقة في القصيدة العربية؟، وكيف ينظر الشاعر الإماراتي إلى الشعر الشعبي، وما هو الرابط الذي يوثق علاقته به؟، وهل أسهم ذلك في تغير مزاج الحداثة في التكوين الشعري الإماراتي؟. ليس ذلك وحسب، بل يمكن أن تتفرع هذا التساؤلات إلى تساؤلات جزئية دقيقة، يفتح كل منها باباً على الآخر، فعند الحديث عن تأثر كل من الشعبي والفصيح بالآخر، هل يمكن الحديث عن لغة خاصة، وبالتالي هوية مميزة لحركة الشعر في الإمارات تجعلها متفردة عن سائر البلدان العربية؟، وهل يمكن الحديث عن مضامين وموضوعات جديدة تم إدخالها على القصيدة الفصيحة؟، وهل كان للحداثيين نصيب من التغير والأثر، وإلى أي حد يمكن أن يصلح هذا المزج بين كتابة قصيدة النثر والقصيدة الشعبية في الوقت ذاته؟. الباحث في أثر الشعر الفصيح على الشعبي يجد إجابات عديدة تؤكد تأثر كل نوع شعري بالآخر، وهذا ما طرحته الخليج في استطلاع سابق، قدّم فيه الشعراء الذي يكتبون النوعين، إجابات تشير إلى وجود حالة تداخل بين الفصيح، والشعبي، معتبرين أن ما يميز الفصيح عن الشعبي يمكن حصره بصورة عامة في اللغة ليس إلا، فالأوزان ذاتها إلى حد ما، والأغراض ذاتها: المدح، والهجاء، والحب، والوطني، وغيرها. وتؤكد ذلك أيضاً القراءة المتأنية للعديد من الشعراء الإماراتيين، فالعائد إلى تجربة الشاعر محمد البريكي مثلاً يجد هذا الأثر بصورة ذكية، إذ تمر المفردة الشعبية في القصيدة الفصيحة لديه لكن تلك المفردة تعود بجذورها الأصيلة إلى الفصحى، وهذا ينطبق على تجارب الكثير من الشعراء، فكذلك الشاعر عبدالله الهدية، وسالم الزمر، وأحمد محمد عبيد، وكلثم عبدالله، وخالد البدور، وخالد الظنحاني، وأحمد العسم، وغيرهم من الشعراء الإماراتيين. إن تلك التجارب الشعرية لم توظف المفردة الفصيحة، والقوالب والمضامين وحسب وإنما استندت بعض التجارب الشعبية على الاقتباس والمعارضة، فتشكلت حالة امتزاج فريد يمكن القول إنها أنتجت لغة جديدة وفضاءات شعرية واسعة ورحبة أمام الشعراء الذي يجيدون كلا النوعين. في ظل ذلك ظهرت تجربة مغايرة تحاول هدم الجدار اللغوي بين الشعر الفصيح والشعبي، قدمها الشاعر سالم الزمر في كتابه النبطي الفصيح الصادر في العام 2014 عن مركز حمدان بن محمد لإحياء التراث، حيث طرح الشاعر بحثاً يبين فيه أن الكثير من المفردات التي استخدمت في القصيدة الشعبية الإماراتية وكانت تظهر وكأنها من قلب اللهجة، هي في الحقيقة فصيحة واشتقاقاتها المستخدمة في الدارجة سليمة وفق قواعد اللغةالعربية. يقول الزمر في إطلالته على اللهجة الإماراتية وأشكالها واختلافاتها، إنه: تقلب بعض اللهجات في الإمارات الكاف في حديثها، مثل مفردة قلبك عند مخاطبة المؤنث يقولون قلبش، وعينش، وتلك لا شك لهجة من لهجات العرب التي تسمى الكشكشة، والكشكشة تلك لهجة قديمة ظهرت في لهجات القبائل الأولى كربيعة ومضر وبني سعد، وما زال في العرب من يأتي بها كقبيلة العجمان في السعودية، وكقبائل النقبين في الإمارات وأهل اليمن، جاء ذلك في لسان العرب لابن منظور (والكشكشة: لغة لربيعة، وفي الصحاح: لبني أسد، يجعلون الشين مكان الكاف، وذلك في المؤنث خاصة، فيقولون، عليش، ومنش، وبش، وينشدون: فعيناش عيناها، وجيدش جيدها ولك عظم الساق منش رقيق ويقدم الزمر في هذا الاشتغال العديد من النماذج على مفردات عرفت كشعبية إلا أنها فصيحة، فيتناول قصيدة للشاعر الإماراتي المعروف الماجدي بن ظاهر، منها: يقول الفهيم المايدي اللي بنا بدع تراه الفاهمين أمثالها ما مونة ماقلتها في مذمة ونزهة إلى راعي المثايل قالها إلى طرى طاري القصيد نووا لها ولا يطربون الرامسين إلا لها ويشير إلى أن قوله في البيت الثالث الرامسين يعني المتحدثين، والمتكلمين، وكلمة رمسة كلمة ذات أصل فصيح، فقد جاء في لسان العرب الرمس: الصوت الخفي. إلى هذا الحد يمكن القول إن القصيدة الفصيحة اتحدت مع القصيدة الشعبية وكأن التجرية الشعرية الإماراتية تؤكد الجذر الأصيل لمفهوم الشعر القائم على المشاعر، وما اللغة فيه سوى إناء، وما الإناء إلا مادة قابلة للحذف والإضافة والتطويع والاكتساب والتأثر. يلفت النظر كذلك في ظاهرة الجمع بين الفصيح والشعبي في التجربة الشعرية الإماراتية، هو وجود شعراء يكتبون قصيدة النثر وفي الوقت نفسه لهم تجارب - حتى ولو ضئيلة - في الشعر الشعبي، ففي حوار لالخليج مع الشاعر أحمد العسم، أكد أن له نصوصاً في الشعر الشعبي على الرغم من أنه أحد المخلصين لقصيدة النثر، وقرأ العسم عدداً منها وكأنه بذلك يؤكد حالة شعرية أصيلة لا يمكن للشاعر الإماراتي الفكاك منها. إن كان ذلك يشير إلى شيء فهو بلا شك يشير إلى جوهر الشعر الشعبي في ذاكرة المثقف، والشاعر الإماراتي، إذ لا ينظر الشعراء الإماراتيون إلى القصيدة الشعبية بوصفها نوعا شعرياً مغايرا، وإنما هي واحدة من العلامات، والملامح التي تؤكد هوية المجتمع الراسخة، والتي تحقق له التجانس مع المكان والتاريخ. ينكشف هذا بالعودة إلى ذاكرة التكوين المعرفي، والثقافي، واللغوي لأي من الشعراء في الإمارات، إذ تشير الكثير من سير الشعراء، وتجاربهم الى أنهم تربوا على القصائد الشعبية في مجالس الأجداد، فكانت القصيدة هي سبيلهم إلى الحكمة، والعلم، وفي المزاح، والغزل، وحتى في توثيق الأحداث.
مشاركة :