كأن أمسنا وحاضرنا باتا توأمين حقيقين، تلوّنهما حال تردٍ وتخبطٍ يؤطّرها سؤالٌ مؤرق: بالنسبة لبكرا شو؟ كان قد ولّفه ولامسه الفنان اللبناني زياد الرحباني، في دراماه المسرحية الموسومة بالعنوان نفسه، قبل 38 عاماً. وكم بدت هذه الرائعة الرحبانية روحاً حافلة بألقٍ وجِدةٍ تخالطهما قوة إسقاطات آنية في مجتمعاتنا، وهي تطل علينا، أخيراً، متقمصةً جسد الشاشة الفضية، إذ تشهد صالات السينما، المحلية والعربية، منذ قرابة الشهر، عروضاً لها يجدلُ معها المسرح، وفي واحة الفن السابع، قصة العِتق لما يوشي إبداعاً ينبش في تفاصيل حكاية وجعنا وربكتنا.. بل تيهنا ومراوحتنا في المكان، في خضم واقع هو ذاته، لم نبدل فيه أو نجدد، منذ قرابة النصف قرن، لتُدمِن مفردات هويتنا النزف على حدّي ذاك التساؤل المرير.. وعلى وقع يومياتنا المتخبطة في دوامة العصرنة. صدمة زكريا (زياد الرحباني).. ثريا (نبيلة زيتوني)..رامز (جوزيف صقر)..ونجيب ورضا والريس أنطوان والخواجة عدنان. هؤلاء هم شخوص العمل الأبطال، الذين يغزلون خيوط حبكة درامية، نسجَها زياد وأخرجها ومثّل فيها، محورها ردود فعلنا ومنوال تفاعلنا في العالم العربي- لبنان نموذجاً- إزاء هجمة أو صدمة الحضارة وما أدخلته على حياتنا من تغييرات.. فها زكريا، ابن الجبل الذي تربى على الأصالة والجمال والمحبة، تجرفه صيغ العيش المدينية البيروتية، بعد أن استقر في العاصمة بحكم عمله في إحدى حانات الحمرا، لينساق وراء المظاهر ولم يعد ليرتضي إلا مستوى معيشي رفيع الطراز مهما استلزم الأمر من أثمان سيدفعها من مخزون قيمه. وهكذا فإنه يختار أثاثاً باذخاً لبيته ومدرسة باهظة الأقساط لأولاده.. ولباساً له من أشهر الماركات. ومن ثم، لم يتردد، وعقب رفض الخواجة عدنان أن يزيد راتبه، في دفع زوجته للعمل معه، رغم الأجواء غير السوية حيثذاك. فيشرع يقدم التنازلات ويفرّط بثوابته مُهدماً صرح كرامته وعائلته، ويغدو إثرها ذليلاً تنهشه الحيرة والندم. لكنه يعود ليثور على هوانه ونفعيته، نهاية المطاف، فينتصر لشرفه ويرفض النهج الذي اختطه لزوجته ويهدم جدران الخوف والرضوخ للمال وأربابه. ضياع رمزية آسرة وجرعات تأملية عالية مُغلّفة بالفكاهة والإمتاع، تنبض بها مفاصل المسرحية/ الفيلم. إذ نطل معها، على بانوراما مجتمعية شاملة نرقب خلالها حيوات وخيارات نماذج متباينة من البشر، تجمعها سمات التخبط والضياع في دوامة عيش تحكمه النظرة المادية وتقود علاقات أفراده نفعية ونهم إلى المال يُنسيان الجميع طيبة الضيّعة ولذة الحياة البسيطة وروعة المجتمع الريفي. وفي الخضم، نجد رضا تخطفه الرغبة الجامحة للمتع والتسليات الواهية.. بينما الأحلام بالغنى تستعبد زكريا وزوجته ثريا..ومعهما أنطوان. كما إن رامز (الضيعجي) الفلاح الطيب.. المحب للموسيقى والوفي لأصدقائه وأقاربه، تجذبه حياة المدينة وينغمس في لهوها ويصمم على فراق حقلته. ولم تغب عن المشهد، أيضاً، شخصيات عديدة أخرى، بينها ابن البلد القبضاي. وكذا الشاعر الذي لا يتوانى عن الاتجار بقصيدته، والمستعد لجعل نتاجه الفكري سلعاً قابلة للمساومة وشبيهة ببضاعته من الحقائب وسواها. وأما الطباخ نجيب، فهو حارس التقاليد الرافض كل جديد يمس ثيمات المجتمع وأعرافه. وثيقة فنية مهمة يقول محمد حمزة المتحدث الرسمي باسم الشركة أم دوت ميديا التي أنتجت العمل سينمائياً: سعادتنا كبيرة لنجاحنا في إمداد المكتبة الفنية العربية بوثيقة سينمائية لهذا العمل المهم. وأود الإشارة إلى أن نجاحنا في الصدد لم يك سهلاً وإنما تأتى ثمرة لجهود كبيرة بذلناها، احتاجت منا أولاً، نقاشات مع زياد طوال 17 عاماً حتى استطعنا إقناعه في عام 2012، بعرض مقاطع العمل التي كانت قد صورت أصلاً لمراقبة أداءات الممثلين، في صيغة فيلم سينمائي متكامل. وثانياً، في المرحلة التالية، تعاوناً مع أبرز الشركات التقنية العالمية المتخصصة، في أميركا وألمانيا، للاشتغال على المقاطع المصورة وجعل الصوت والصورة في أحسن حال ممكنة. ويختم حمزة: بعد نجاح العرض في دولة الإمارات وفي لبنان، نخطط لتقديمه في الدول العربية الأخرى، ومن ثم في دول الاغتراب الجاليات العربية..وسيكون متوافراً، عقبها، على موقعنا. النص بطلاً مفاجأة ثقيلة العيار، أتحف بها زياد الرحباني ومعه شركة أم دوت ميديا المنتجة للنسخة السينمائية من العمل، الوسط الإبداعي والثقافي العربي العام، بتقديم هذه الرائعة الرحبانية، والتي يبقى النص بطلها الأبرز، عبر نافذة الفن السابع. ذلك بعد أن كانت الحسرة كبيرة، قبلاً، كونها لم توثق بالصوت والصورة معاً : (تصوير الفيديو).
مشاركة :