على الرغم من التحولات الاجتماعية العديدة التي تعيشها المجتمعات العربية وحصول الأبناء على الكثير من الاستقلالية في اختياراتهم الشخصية وتوجهاتهم المستقبلية، مازالت الكثير من الأسر تحرص كل الحرص على التدخل في أهم القرارات المصيرية لأبنائها المتمثلة في اختيار شريك الحياة، وفق أسس عائلية تضع شروطها، والتي يتحمل تبعاتها الأبناء مدى حياتهم وقد تكون لها آثار مدمرة عليهم وعلى أبنائهم. لندن- تتعدد طرق تعارف الشباب في وقتنا الحاضر وتتنوع ورغم قدرتهم على اتخاذ قرار اختيار شريك حياتهم وتحمل نتائج اختيارهم يواجه الكثيرون منهم بصدّ الأسر التي ترى الأمور بطريقة مختلفة، حيث لم تتأثر الكثير من العائلات بالتغيرات الاجتماعية التي شهدتها الدول العربية في العقود الأخيرة وترى أن اختيار شريكة حياة الابن خاصة من خصوصياتها وهي وحدها القادرة على انتقاء الزوجة المناسبة له والتي يجب أن تنطبق عليها الشروط التي تضعها، متجاهلة قدرة الشاب على تحديد الشخص الذي يراه مناسبا ليبني معه أسرة. ويرى الأهل أن الأبناء تحكمهم العواطف ويغيبون العقل في اختيار شركاء حياتهم، في حين أنهم يصرون على إعمال العقل وإيلاء أهمية للمركز الاجتماعي والحالة المادية والثقافية، أما العاطفة فتأتي في مرتبة ثانية من حيث الأهمية. وقال أخصائيو علم الاجتماع إن هذه الظاهرة تأبى أن تندثر رغم آثارها السلبية على الأبناء والأسر، وشددوا على ضرورة تجنب الأهل فرض آرائهم على أبنائهم في اختيار شريك الحياة وفق ميولهم وأهوائهم، لأن اختيار الشاب أو الفتاة لبعضهم بعضا سيكون وفق معايير تناسبهم قد لا تناسب أسرهم. وأضافوا أنه من حق الشاب أو الفتاة أن يكون الفاعل في أهم قرار يتخذه في حياته، لافتين إلى أن معظم الفتيات والشبان من خريجي الجامعات، الذين لهم القدرة على اختيار شريكة أو شريك الحياة المناسب لهم. وأشار المختصون إلى أن رضوخ الأبناء لرغبة الآباء والأمهات في اختيار شريكة حياتهم رغم التغييرات التي تشهدها الأسر العربية والتفتح الذي يعيشه الشباب وتعدد وسائل التعارف والتواصل بين الجنسين قد يحكم على العلاقة الزوجية بالفشل منذ البداية، مستغربين سلبية بعض الأبناء في ترك هذا القرار المصيري بين يدي الآباء والأمهات. والغريب في الأمر أن الكثير من الشباب خاصة في الأوساط الاجتماعية المرموقة يخضعون إلى اختيار الأمهات لشريكات حياتهم عن قناعة ودون تردد، ويستند الاختيار خاصة على التوافق المادي والاجتماعي بين العائلات، متناسين أنه لكي يتم التوافق بين طرفي العلاقة الزوجية، يجب أن تبنى على أسس عقلية وعاطفية تساهم في استمراريتها، حيث أكد المختصون أن حرية الاختيار في الزواج وسيلة فاعلة من وسائل تحقيق التوافق بين الزوجين. وشدد الخبراء على ضرورة أن تتاح الفرصة للمقبلين على الزواج للاختيار بكل استقلالية، منبهين إلى أن الدراسات الحديثة كشفت أن الاختيار غير الموفق لشريك الحياة من الأسباب الرئيسية لحدوث الطلاق، وأن عدم الاختيار السليم قد يؤدي إلى الانفصال. وكشفت أن نسب الطلاق في بعض الزيجات التي لم يكن لأصحابها دور في اختيار زوجاتهم قد وصلت إلى 30 في المئة في الخمس سنوات الأولى من الزواج، ثم زادت تلك النسب إلى أكثر من 44 في المئة في السنوات اللاحقة. وبين الخبراء أن لحرية اختيار شريك الحياة العديد من المزايا، أهمها زيادة درجة التوافق الفكري والوجداني والعاطفي، وتحقيق درجة من الرضا عن الطرف الآخر، وبالتالي تحقيق درجة عالية من السعادة والاستقرار النفسي والعاطفي، مؤكدين أن مسألة اختيار الشريك المناسب تعتبر من أبرز المشكلات التي عاشتها المجتمعات العربية في القديم وتتواصل حتى في وقتنا الحالي وإن كانت بنسب أقل، فأغلب الأسر العربية تتدخل في قرار زواج الأبناء الذكور والإناث على حد السواء بطريقة مباشرة أوغير مباشرة، ولا تأبه باستقلاليتهم في اتخاذ أهم القرارات المصيرية في حياتهم مثل اختيار شريك الحياة مهما كان مستواهم العلمي والوظيفي. وأشاروا إلى أن بعض الشباب يتمردون على رفض الأهل لاختياراتهم ويصرون على إتمام قراراتهم إلا أنهم يواجهون صعوبات عديدة ومشكلات كثيرة لا حصر لها، لكن الكثير منهم يفضلون الاستجابة إلى قرارات الآباء والأمهات، تجنبا للتصادم الذي قد يحدث بينهم. وكشفت دراسة عربية أن نسبة تدخُّل أهل الزوجين في قرار زواج الأبناء، وخاصة في حالات الزواج المبكِّر، كانت 37.5 في المئة من أصل العيِّنة البالغة 3500 أسرة، وبنسبة 50.3 في المئة بالنسبة لقرار زواج البنات، وكان القرار شخصيا للأبناء بنسبة43.3 في المئة، وللبنات 29.3 في المئة، كما أن التدخُّل في قرار الزواج يَتبَعه تدخُّلٌ آخرُ في قرار الإنجاب؛ حيث بَلغت نسبةُ التدخُّل للأهل 9 في المئة بالنسبة لأهل الزوج، و3 في المئة بالنسبة لأهل الزوجة، وكانت أكبرُ نسبة من أسباب التدخُّل بسبب ضرورة إنجاب الذكور. أغلب الأسر في المجتمعات العربية تتدخل في اختيار زواج الأبناء الذكور والإناث على حد السواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ويرى الباحثون أن هذه النسب طبيعية جاءت طبقا للعادات والتقاليد التي تربَّت عليها المجتمعات العربية، والتي تصل إلى مكانة القوانين الملزمة؛ نظرا للتربية الدينية التي تحث على إرضاء الوالدين، مما جعل خروج الأبناء على هذه العادات والقيم تجعلهم ضمنَ قائمة المنبوذين من المجتمع، مما يعني إعاقة تواصلهم مع الآخرين؛ لذا يحرص الأبناء عادة على مباركة الأهل واسترضائهم، وجعلهم طرفا قويا في اتخاذ قرار الزواج. ومازالت العادات والتقاليد تحكم الكثير من البيئات الاجتماعية في الدول العربية على الرغم من التغيرات الكثيرة التي شهدتها هذه المجتمعات، حيث تصر أسر كثيرة على زواج الأقارب مثلا خاصة في الأرياف والبيئة القبلية والعشائرية. ويرى خبراء أنه على الرغم من أن هذا النوع من الزواج يسعى للحفاظ على رابطة الدم الواحد وبقاء واستمرار الجماعة وعدم اختلاطها بغيرها، إلا أنه تكتنفه العديد من المشكلات، منبهين إلى أنه لهذه الزيجات أضرارا اجتماعية خطيرة قد تؤدي إلى تفكك الأسر النواة والممتدة وتشرد الأبناء، إلى بجانب الأمراض الوراثية الخطيرة. وقال المختصون إن معظم الشباب والفتيات أصبحت لديهم استقلاليتهم الخاصة ولهم تجارب متنوعة بعكس الماضي، ويجب أن يفكروا جيدا في مدى ملاءمة شريك الحياة لهم، دون الانقياد إلى قرارات أسرهم التي تكون في أحيان كثيرة تعسفية.
مشاركة :