يحلم الآباء والأمهات بتخصص رفيع المستوى لأبنائهم بصرف النظر أحيانا عن مدى قدرتهم على النجاح في هذا التخصص، وفي مقابل ذلك يرغب الابن في تحقيق أحلامه وفق ما يناسب ميولاته وقدراته، وهنا يبدأ الخلاف بين الطرفين حيث يرى الوالدان أنهما أكثر خبرة وقدرة على تحديد مستقبل أبنائهما في حين يعتبر الأبناء أنهم الأقدر والأحق باختيار مستقبلهم. لندن – تدفع سلبية الأبناء في زمننا هذا وتواكلهم على الآباء والأمهات في تسيير كافة شؤون حياتهم وفي متابعتهم اللصيقة لهم في جميع مراحلهم التعليمية، الآباء إلى التدخل بصفة آلية في اختيار التخصص الجامعي. وتطرح هذه المشكلة وما ينجر عنها من انعكاسات سلبية على نجاحهم الجامعي والوظيفي لدى أغلب الأسر التي لديها أبناء على مشارف الجامعة، حيث تؤثر الاختيارات غير المناسبة خاصة في أحيان كثيرة على الأبناء وعلى نجاحهم في المستقبل. وأكدت دراسات عربية أن نسبة كبيرة من الطلبة يعتمدون على اختيارات أسرهم في توجيههم الجامعي، مشيرة إلى أن الأسرة تلعب دورا كبيرا في إثارة الطموح لدى أبنائها، وتحديد نوعه ومستواه، لأن هناك فـرقا بين ما يطمح إليه الإنسان وما هو حاصل عليه أو ما يستطيع تحقيقه في الواقع، فكلّ إنسان يطمح ويخطط ويضع نصب عينيه الآمال الكبيرة ثم يسعى لتحقيقها. وبينت أن للوالدين دورا كبيرا في الكشف عن استعداد أبنائهما وتهذيب ميولهم ورعايتها، وللأسرة هنا دور فعال في تربية الاختيارات والمسارات الدراسية والمهنية التي يبدأ التلميذ في رسمها منذ اكتشافه الاختيارات، ويتجلّى ذلك من خلال النتائج الدراسية والتناغم الحاصل بين الميل والاستعداد لدى الطالب في بداية مرحلة التعليم الثانوي. هذه المرحلة الهامة في حياة الفرد والتي تظهر فيها أهمية تحديد الاتجاهات بخصوص المهنة المختـارة التي سيضطلع بها مستقبلا. وتعتقد الكثير من الأسر أن التخصصات الصعبة هي المعيار التي تجعل الأبناء ناجحين مهنيا وهذا الاعتقاد يضع الابن أو الابنة في صندوق مغلق مليء بالحِمل والثقل والصعوبات، مما يؤدي إلى التدني الواضح في المستوى التعليمي لديهم. وقال المختصون إن التدخل في تحديد مستقبل الأبناء يبدأ منذ الطفولة وذلك انطلاقا من السؤال التقليدي “ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟”، الذي يطرح على جميع الأطفال تقريبا، لافتين إلى أن الطفل يأخذ منذ صغره توقعات الأهل حول مستقبله، ويصبح ملزما أمامهم وأمام الجيران والمقربين والأصدقاء بهذه التوقعات مما يجعله في حالة صراع بين نفسه وبين قدراته وطموحاته. وأكدوا أن الطلاب في جميع مراحل حياتهم حائرون ومشتتون، ويرون أن توقعات الأهل هي الأساس في تحديد توجهاتهم الجامعية والوظيفية، مع تغييب رأيهم في كيفـية رؤية مستقبلهم. وأوضحوا أن توقعات الأهل تجعل الأبناء لا يعرفون ما يريدونه، مشددين على أن الأطفال والمراهقين اليوم لا يعلمون ما الذي يريدونه رغم الخيارات الكثيرة المتاحة أمامهم، ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى الأهل لأنهم لا يناقشون خيارات أبنائهم وتستهزئ الكثير من الأسر من رغبات أطفالها في الحصول على وظائف ومهن لا ترقى إلى مستوى طموحاتهم الاجتماعية، حيث ترتبط الكثير من الوظائف التي يشغلها الأبناء بالوجاهة الاجتماعية للعائلات. ولفتوا إلى أنه في الكثير من الأحيان لا ينجح الوالدان في اختيار التخصصات التي تتناسب مع مؤهلات الأبناء الفكرية والعلمية، مما يؤدي حتما حينما يرغمون أبناءهم على دراسة التخصص الذي لا يتناسب مع قدراتهم إلى انعكاس النتائج السلبية على مستقبلهم ككل. فلا شك بأن التخصص الجامعي يرتبط بالوظيفة والمهنة المستقبلية. ويرى الكثيرون أن من بين أسباب تدخل الآباء والأمهات في تحديد الاختيار الجامعي لأبنائهم، عدم ثقتهم في قدراتهم على اختيار الاختصاصات، بالإضافة إلى الرغبة الدائمة في التباهي والتفاخر أمام المقربين والأصدقاء، منبهين إلى أنه في أغلب الأحيان يسعى الأهل إلى تحويل مستقبل أبنائهم إلى نسخة من أحلامهم التي لم يحققوها في حياتهم. وشدد اختصاصيو علم النفس على ضرورة أن يحدد الطالب بنفسه المجال أو التخصص الذي يتناسب مع قدراته التفكيرية ومع ميوله العلمي حتى لا يواجه صعوبات قد تهدد مسيرته الدراسية في المستقبل، إذ ينبغي على الطلاب أن يفتحوا مجال التحاور والتشاور مع أولياء أمورهم حتى يتم اختيار التخصص الذي يتناسب معهم، وهنالك الكثير من الطلاب يكونون على قناعة تامة بتخصص معين منذ وقت طويل ويعملون على تحقيقه وتكون أسرهم على علم برغبة أبنائها ولا تعترض وتعمل على تشجيعهم بكافة السبل حتى يحققوا أهدافهم. وأضافوا أن الطالب يمكن أن يستجيب لوالديه في دراسة تخصص معين ثم تواجهه بعض الصعوبات التي قد تهدد مستقبله لأنه يدرس ما هو بعيد عن رغبته وحتى إذا أكمل الدراسة يمكن أن يكون غير ناجح مهنيا، لذا يجب ألا يتدخل الآباء في تخصصات أبنائهم سوى بالنصح فقط وألا يكون النصح بمثابة قرارات غير قابلة للنقاش. وأكدوا على ضرورة أن يتمتع الأبناء بحرية اختيار التخصص الذي يناسبهم لأنهم الأدرى بقدراتهم الفكرية والمعرفية، ويجب أن يقتصر دور الأهل في التوجيه والاقتراح. وشددوا على ضرورة الحوار الذي يبنى على تقبل اختيار الأبناء واحترام رغبتهم في تحديد تخصصاتهم، وعدم ممارسة السلطة الأبوية لإجبارهم على تخصصات لا يرغبون في دراستها مما يؤثر سلبا على حياتهم الوظيفية وبالتالي على مستقبلهم وحياتهم بصفة عامة وأوضحوا أن تدخل الأسرة في اختيار التخصص الدراسي لم يعد كما كان في السابق حيث كانت الجامعات والكليات محدودة مما يجعل الاختيار محدودا وكانت مسؤولية الآباء تنحصر في تقديم المساعدة حتى يصل أبناؤهم إلى الاختيار التخصصي الصحيح، إلا أن الأمر اختلف كثيرا اليوم حيث الأبناء لديهم وعي كبير ويحددون رغباتهم منذ وقت طويل ويعرفون أهدافهم ويسعون إلى تحقيقها. وبينوا أن للتكنولوجيا أثرا إيجابيا على الناجحين في مناظرات الباكالوريا، حيث يمكن لهم تصفح كل المعلومات الخاصة بالتوجيه الجامعي عن طريق الإنترنت، كما أنها ساعدتهم في معرفة تفاصيل التخصصات التي يختارونها والجامعات التي يرغبون في الالتحاق بها، ويجب على أولياء الأمور أن يبتعدوا قدر الإمكان عن التدخل لاختيار التخصصات بصورة إجبارية وباستعمال سلطتهم على الأبناء لأنّ هذا الأمر يقود إلى الفشل حتما. ويرى الخبراء أن السياسة التي يتبعها بعض الآباء مع الأبناء في اختيار تخصصاتهم هي انعكاس لرغباتهم، حيث إن دفع الطالب إلى تخصص ليس من ضمن اهتماماته ستكون له انعكاسات عديدة أهمها الإخفاق والتأخر الدراسي، ويقتل الإبداع والتمييز لديهم. ونبهوا إلى أن دراسات عدة كشفت أن غالبية الموظفين الذين لا يحبون أعمالهم هم أكثر عرضة للأمراض، وأن الصواب من قبل الوالدين في هذا الأمر هو توجيه الطالب فقط على اختيار التخصص الصحيح وتشجيعه على اتخاذ القرار الصائب، وإدراكه الجيد لطبيعة التخصص الذي يريده ومميزاته وسلبياته ومستقبله. ولفت اخصاصيو علم الاجتماع إلى أن معظم الآباء والأمهات يستخدمون مبدأ الأوامر مع أبنائهم في تحديد مصيرهم، وهو من الأساليب الخاطئة وله آثار سلبية خطيرة على الأبناء، ولا شك أن حرص الآباء والأمهات على أبنائهم وبناتهم يدفعهم إلى التدخل في عملية اختيار التخصص، لكن درجة التدخل هذه يجب أن تكون لها حدود واضحة، فمن الخطأ أن يلزم الآباء أبناءهم بتخصصات معينة أو أن يضغطوا عليهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من أجلها.
مشاركة :