أغلب الظن، أن الأجيال الفلسطينية في المستقبل عندما تنظر إلى الوراء سترى أن اجتماع الفصائل، الذي التأم عبر الدائرة التلفزيونية، يوم الثالث من سبتمبر 2020 كان الحلقة الأخيرة، من مسلسل خداع النفس وتطيير الوعود التي ليس وراءها عَزم، وأن المحتشدين من قادة الفصائل الفلسطينية، في قاعتين، واحدة في رام الله والأخرى في بيروت؛ إما جاؤوا لتلاوة مرافعات طلب البراءة، أو بيانات التبرّؤ ممّا فعله المتنفذون على الساحة الفلسطينية وأوقعوه في رأس شعبهم المظلوم. بعد هذا الاجتماع، لم يبق وقت طويل على عودة الشعب الفلسطيني إلى حال اللاتشكل السياسي، مثلما كان عليه الحال في أيام اقتلاعه من أرضه سنة 1948. ويمكن أن يُحسب هذا الوقت، بمقياس أعمار البشر، والتركيز في هذه الحسبة على صحة رجل مريض، تجاوز سن الخامسة والثمانين، كان هو ومعه حركة حماس، الطرفين اللذين فعلا كل ما يستطيعان، لإيصال الشعب الفلسطيني ومعه كيانه السياسي، إلى هذه الحال البائسة، العاجزة عن أن تفتح أفقا أو أن تبني مؤسسة دستورية، أو أن تنعش أملا واحدا بسيطا، أو تفلح في طبابة أو تنمية، أو أن تؤسس لحياة اقتصادية، أو تأنس في نفسها القدرة على إصدار بطاقة تعريف نظامية، لمواطن فلسطيني يفتقدها، أو أن تسجل مولودا، بعد استعادة سجل المواليد من إسرائيل! منذ العام 2007 الذي سبقته حالة فوضى وصدامات بين أصحاب الرؤى والأوهام، كانت المخاطر تزداد في كل يوم. وقد تحمل الشعب الفلسطيني كل ألوان العذاب والأذى، ودفع الثمن الغالي من دمه ومقدراته، وارتسمت في هذا السياق لوحة سوريالية: طرف يقول إنه يقاوم بالنيران، لكي يحرر القدس، انطلاقا من منصة اجتماعية مرهقة تكابد شظف العيش، وطرف آخر يساعد الاحتلال على كبح جماح تلك المقاومة، ويزعم أنه يحقق انتصارات سياسية. وعلى مستوى الرؤوس الكبيرة من الطرفين، لا ينقطع حبل المجاملات بينها، كأنما اتفقت جميعا على الوصول بالشعب الفلسطيني إلى هذا المآل، ثم يخلع كل منها إلى البلد الذي حصل على جنسيته وجواز سفره. كان أحد التطورات الأخيرة، وهو الذي يمثله اتفاق الإمارات مع إسرائيل، بمثابة فرصة لإدخال هذا الحدث على خط السجالات في الإقليم. وبالطبع سيتطلب ذلك، جعل الاتفاق سابقة تطبيع ليس لها مثيل، كما لو أن الطيران الإسرائيلي، كان قبل اتفاق الإمارات، ينطلق بشكل عمودي إلى السماء فيصل إلى القمر، ثم يعرج منه إلى الهند، دون أن يمر عبر جوار عربي أو أجواء تركية. ومعلوم أن لكل طرف، الحق في أن يرى ما يشاء، كما أن للشعب الفلسطيني حق الرفض والاعتراض على أيّ اتفاقات تطبيعية، قبل التزام إسرائيل بمرجعيات عملية التسوية الطبيعية، وهذا موقف يكرره رئيس السلطة محمود عباس ولا تثريب عليه. لكن الذي جرى تقديمه للرأي العام الفلسطيني والعربي، هو محض صيغة مفتعلة تفترض أن المخاطر لم تكن قائمة قبل اتفاق التطبيع الإماراتي، وأن الانهيار جاء بسببه، وعلى هذا الأساس جاءت التخريجة التي يمكن أن يُدعى فيها الأمناء العامون للفصائل، إلى الاجتماع للمرة الأولى، مكتملين، عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة. وقد أريد للصيغة أن تستدعي خطرين لإسناد “الخطر” الذي جرى التركيز عليه، لكي يصبحا ثلاثة: “صفقة القرن، الضم، التطبيع”. وأطرف ما في هذه الصيغة ـ لو جازت الإشارة إلى طرافة ـ أن صفقة القرن والضم يتداخلان في خطر واحد، بينما التطبيع ليس خطرا جديدا، يستدعي الفزع والحديث عن طعنات خنجر. فهو يتداخل مع واقع الجوار الفلسطيني، وكنا منذ سنوات طويلة نتعامل مع التطبيع باعتباره قائما، وقد أعيدت جامعة الدول العربية إلى مكانها الذي أخرجت منه، لكي يستأنف الفلسطينيون والعرب، شجب التطبيع من داخل مبنى في البلد الشقيق الذي فيه سفارة إسرائيلية. كان الخطابان اللذان ألقاهما عباس وهنية، أشبه بمرافعات لطلب البراءة، بعد نزاع لم يكن له لزوم، ونجم قبل أكثر من عشرين سنة، عن جهالة في السياسة وفي قراءة الواقع لكن اللافت، أن هذه الأخطار الثلاثة التي جاءت في صيغة التنادي إلى مؤتمر المرافعات الفصائلية لطلب البراءة؛ ليس من بينها أيّ خطر أوقعه الفلسطينيون بأنفسهم. وكأنّ ليس هناك انقسام من صنع أيدينا، يلامس العار ويدمر المجتمع. وكأنّ ليس هناك تجويف متعمد للكيان الوطني الفلسطيني، الذي هو ذراع النضال السياسي، وضمانة العدل والمساواة بين المواطنين ووقف ظواهر الفساد والاستبداد. وكأنّ ليس هناك خنق لغزة استمر سنوات طويلة، وانبثقت عنه ظواهر الفقر المدقع وانتحار الشباب يوميا. وبالمجمل كأنّ لا إحباطَ شعبيّا ولا مجتمعَ معذبا تتسلى عليه طبقة سياسة مترفة. فالجماعة فاليوم، التي قدست التنسيق الأمني مع الاحتلال، وشرعنت الاستبداد والتعذيب في السجون، أصبحت حساسة، تستشعر الخطر من التطبيع، ولا علاقة لها بأيّ مصيبة وقعت على رأس شعبها. في هذه الظروف الموبوءة، دعا عباس الى اجتماع عبر الدائرة التلفزيونية، وأعد خطابه العرمرم، وحاول أن يُلقي محاضرة في التاريخ أو عن وعد بلفور وخانته الصياغات التعبيرية، كأن يقول لن نكرر الخطأ ونخرج من بلادنا. ثم يستدرك ويقول أخرجونا، ولم نعرف هل هو يرى شعبه قد أخطأ وخرج، أم إن الصهيونية أجرمت وأخرجته اقتلاعا، وكذلك عندما زعم أن “صموده الأسطوري” هو الذي أثبت أن شعب فلسطين موحد، وأنه “دفع ثمنا غاليا” من أجل ذلك (وسقطت سهوا الإشارة إلى ثمن غالٍ دفعه أولاده). فكلما كان يرتجل في خطابه، تفلت منه بالسليقة ألفاظ من جنس كلامه المعتاد في الغرف المغلقة، كقوله: عشرون شاحنة لغزة “نرسلها لهم، فهم يحتاجونها” كمن يتحدث عن شاحنات أرسلت إلى الصومال، وليس عن شاحنات أرسلت إلى وطنه تحمل دواء من حق شعبه. الآخرون، ممّن لا يملكون من أمرهم شيئا، نطقوا بعبارات الرجاء، وقالوا إنهم مستعدون لمساعدة طرفي الخصومة على التوصل إلى وفاق. فلا أحد يملك أي جديد، ولا يعرف كيف يساعد، وليس لديه سوى الدعوة إلى تشكيل لجان تفحص ثم ترفع إلى منصة أخرى. فقد جُربت كل السبل، منها التوصل إلى اتفاقات تفصيلية، ممهورة بتوقيعات الفصائل فأداروا لها ظهورهم بمنطق المجد الموهوم. كان الخطابان اللذان القاهما عباس وهنية، أشبه بمرافعات لطلب البراءة، بعد نزاع لم يكن له لزوم، إنفجر قبل أكثر من عشرين سنة، ونجم عن جهالة في السياسة وفي قراءة الواقع. لم يعتذر أيّ منهما عن شيء، أما أغلب خطابات الفصائل، فكانت للتبرّؤ ممّا جرى ويجري، دون الاعتذار عن سلبيتها، ودون أن يأتي أحد على ذكر الأطر المضيّعة، سواء الدستورية في السلطة أو الديمقراطية في منظمة التحرير. بل لم يأت أحد على ذكر الصفة القانونية للاجتماع نفسه: على أي أساس جاء وانعقد؟ وهل يستند إلى حرف من أي نص دستوري أو مؤسسي؟ وهل أصبح عباس، الزاحف إلى سن التسعين، هو كل النظام السياسي وكل المؤسسات وكل المنصة وكل المشروعية، وكل منظمة التحرير، ورئاسة مجلسها الوطني، وهو الذي يدعو وهو الذي يقرر ألا يدعو؟ وهل هناك لائحة ناظمة لهكذا اجتماعات، وهل للحاضرين حق التصويت، أم المسألة تنتهي ببيان ختامي، تعقبه تحفظات؟ وهل للاجتماع رقم، يُعرف ما قبله وما بعده، أم هو مناسبة سُمعت فيها مرافعات لطلب البراءة، مع بيانات للتبرّؤ مما جرى؟ ثلاثة أسابيع، ستكون أكثر من كافية، للبرهنة على أن هؤلاء مفلسون، وأن هذا هو اجتماعهم الأخير، قبل أن يضطر الفلسطينيون إلى التجاوز عنهم.
مشاركة :