دفع تنامي حوادث التطرف سواء كانت إسلامية أو يمينية السلطات في ألمانيا إلى إعادة التفكير في استراتيجية مكافحته، بعد أن أصبح يهدد بقوة التعايش الاجتماعي ويؤسس لمجتمع أكثر انعزالية وأقل انفتاحا وتسامحا. ورغم المساعي الحكومية لتطويق الظاهرة تبدو المقاربة الأمنية الزجرية وحدها عاجزة عن تحقيق المأمول خاصة بعد موجة هجرة غير مسبوقة سنة 2015 يحملها عدد من السياسيين الألمان مسؤولية “التدافع الاجتماعي” وتفاقم مشاعر الكراهية والعنصرية داخل مجتمع لم يتجاوز بعد صدمة الحقبة النازية. برلين – بات خطاب الكراهية والعنصرية منذ مطلع الألفية في ألمانيا يحشد المزيد من الأنصار ليشتد عوده مع موجة الهجرة غير المسبوقة التي شهدتها البلاد سنة 2015، ما يؤسس لانقسام مجتمعي تبذل الحكومة الألمانية جهودا كبيرة لتحجيمه، لكن تلك الجهود لا تبدد المخاوف. ومع كل حادثة ذات دوافع عنصرية أو أيديولوجية تصحو لدى الألمان ذاكرة الحقبة النازية ويسترجع السياسيون كما المواطنون هول ما حدث أنذاك، فيما يحاول أخصائيون تفكيك شيفرة اتساع هوة التطرف من منظور سيسيولوجي وتحديد وصفة فعالة لمكافحة الظاهرة. هورست زيهوفر: التطرف اليميني أكبر تهديد للأمن في ألمانيا هورست زيهوفر: التطرف اليميني أكبر تهديد للأمن في ألمانيا ويعتزم وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر تشكيل مجموعة عمل مكونة من 12 خبيرا من أجل تحليل المواقف العدائية تجاه المسلمين ومكافحتها، حيث من المقرر أن تفحص مجموعة العمل هذه أوجه العداء للمسلمين، كي يتسنى للدولة والمجتمع اتخاذ إجراءات ضدها على نحو أفضل وأكثر تحديدا للهدف. وقال “المواقف المعادية للمسلمين لا تمثل تهديدا بالنسبة للمسلمين فحسب، ولكن بالنسبة للتكاتف المجتمعي بشكل عام”. وأضاف أيضا أن تأسيس دائرة العمل يعد رد فعل على حوادث عنصرية، وكذلك هجمات إرهابية وخطط لشن هجمات تعود إلى الأشهر الماضية. وسيعمل هؤلاء الخبراء على إصدار تقرير يشمل توصيات لاتخاذ إجراءات في غضون عامين. ويبلغ عدد مسلمي ألمانيا حوالي 5 ملايين نسمة، وهو ما نسبته 6.1 في المئة من مجموع سكان ألمانيا، ويُتوقع أن يزداد العدد في العقود القادمة، ويعتبر الدين الإسلامي ثاني أكبر الديانات الموجودة في ألمانيا، وهي أيضا ثاني أكبر الدول الأوروبيّة التي تحتضن المسلمين. وتواجه ألمانيا نوعين من التطرف لا يمكن فصلهما عن بعضهما من حيث الأهداف رغم اختلاف الأساليب، فالتطرف الإسلامي القائم على الانعزالية ورفض الاندماج داخل المجتمع الألماني يقابله من جهة أخرى تطرف يميني قائم على معاداة الأجانب والمهاجرين. وفي وقت يرى فيه أخصائيون أن المقاربة الأمنية أثبتت فشلها في تحجيم الانزلاق نحو التطرف، يؤكد آخرون أن تعزيز مفهوم المُواطنة والاندماج في الثقافة الألمانية وفك الارتباط بين مسلمي ألمانيا وكبرى التيارات الإسلامية في الخارج يحمل حبال النجاة. معضلة اندماج المسلمين خطاب الكراهية والعنصرية في ألمانيا يحشد المزيد من الأنصار خطاب الكراهية والعنصرية في ألمانيا يحشد المزيد من الأنصار طوال السنوات الماضية تبحث ألمانيا عن آلية جديدة لدمج المسلمين حيث أصبح الحديث عن التطرف المحلي أو ملف العائدين من البلدان التي شهدت في السنوات الأخيرة توترات أمنية وسياسية، بسبب تنامي الجماعات المسلحة المتطرفة، مثل داعش في سوريا والعراق، عامل ضغط على السياسيين لاتخاذ قرارات أشد صرامة تجاه السير خطوات إضافية في هذا الملف. وتشهد ألمانيا تخبطا من أعتى الأجهزة الأمنية التي بدت غير قادرة على إيجاد الطريقة الأفضل للتعامل مع ملف الإسلام المحلي، في ظل تنامي موجة الكراهية ضد المسلمين ورفض المسلمين أيضا الدعوات لصهرهم داخل المجتمعات التي يعيشون فيها على أسس تخالف “شرائع دينهم”. ومن هنا تأتي التساؤلات بشأن الموانع التي تدفع شبابا مسلما ولد في ألمانيا وترعرع داخل مدارسها إلى الانعزالية والتقوقع بدل الاندماج في مجتمعه. ويعد ارتباط أغلب المنظمات الإسلامية الناشطة في ألمانيا بكيانات إسلامية خارجية أحد أهم الأسباب حسب مراقبين، فمعظمهم يحصلون من هناك ليس فقط على أموالهم، ولكن أيضا على أئمتهم، وهذا أمر إشكالي، لأن الدعم لا يؤدي فقط إلى إنشاء تبعيات، وإنما يقوض التكامل الحقيقي في ألمانيا. فجمعية “ديتيب” تعتبر الذراع الألمانية لوزارة الشؤون الدينية التركية، حتى أن بعض الأئمة تجسسوا على المعارضين السياسيين للرئيس رجب طيب أردوغان على الأراضي الألمانية. لذلك فإن التأثير المستهدف من خلال المال والموظفين والأيديولوجيا أحد أهم الموضوعات التي يجب معالجتها. منذ 2014 انطلقت الحكومة الألمانية في تنظيم مؤتمر “الإسلام في ألمانيا”، الذي ينعقد كل سنتين، لبحث الإشكاليات التي تعيق اندماج المسلمين في مجتمعاتهم المحلية، وسط حديث عن مفهوم جديد “الإسلام الألماني” وهو مفهوم نشأ في ظل تخوف من تأثير جهات خارجية على مسلمي ألمانيا ووسط صراع داخل القوى السياسية الألمانية نفسها التي لم تتفق بشأن بلورة مفهوم واحد يوضح مقاربتها للحضور الإسلامي في ألمانيا. ويسعى القائمون على المؤتمر، الذي ترأس وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر نسخته الأخيرة في 2018 إلى التوفيق بين العقيدة الإسلامية والقناعات والعقائد المرتبطة بها، وبين الثقافة التي نمت في ألمانيا وقيم المجتمع وأساليب الحياة اليومية المختلفة. ووعد زيهوفر بتقديم الدعم المادي والمعنوي لمسلمي ألمانيا في قضايا الاندماج وإعداد الأئمة في مساجد ألمانيا. فإشكالية الأئمة المسلمين، ومدى اعتدال خطابهم الديني الموجه لمسلمي ألمانيا في الدروس الدينية، تطرح منذ سنوات، لكنها زادت في الآونة الأخيرة إذ طالب المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا بتدريب الأئمة داخل ألمانيا عوض توريد أئمة من الخارج. ويؤكد رئيس المجلس المركزي للمسلمين أيمن مازيك على ذلك بالقول “إذا كنا نريد إسلاما بطابع ألماني، فيتعين علينا العمل على تدريب الأئمة في ألمانيا”، فيما ترسل رئاسة الشؤون الدينية التركية “ديانت” كافة أئمة “ديتيب”، وعددهم نحو 900 إمام، إلى ألمانيا وتدفع لهم رواتبهم. ويرى أخصائيون أن الجاليات الإسلامية في ألمانيا ما زالت تعيش في مجتمعات ضيقة ومنغلقة على نفسها في بعض الأحياء، وتأتي بخطباء ورجال دين غير أكفاء من خارج ألمانيا، يتحدثون عن عالم لا يمت بصلة إلى واقع المسلمين، وأحيانا يطلقون فتاوى التطرف والتشدد. ويشير هؤلاء إلى أن الحديث عن مسؤولية الاندماج الاجتماعي، يعني تحمل الحكومات وكذلك المجتمع ومنظمات المجتمع المدني ذلك من خلال تبني سياسات وإجراءات تمنح اللاجئين الجدد فرصة للحصول على العمل والتعليم، ويبقى الدور على الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بدعم تلك السياسات. وتقول مديرة مركز أبحاث الإسلام في فرانكفورت سوزان شروتر إن الدين أصبح “يشكل معيارا للهوية عند الشباب في وقتنا الحاضر ويدفع بالهوية العرقية إلى التراجع أمامه”. وتضيف شروتر أن الشروط والقوانين الدينية أصبحت أكثر تشددا، و”لذلك ينشغل الكثير من الشباب المسلم في ألمانيا بالتفكير يوميا قبل أداء عمل ما والتساؤل عما إذا كان عمل هذا الشيء حلالا أم حراما”. انفلات اليمين المتطرف المقاربة الأمنية أثبتت فشلها في تحجيم الانزلاق نحو التطرف المقاربة الأمنية أثبتت فشلها في تحجيم الانزلاق نحو التطرف إن البحث عن أسباب تنامي المواقف العدائية تجاه المسلمين في ألمانيا يستوجب إلى جانب فك ارتباطاتهم بالكيانات الإسلاموية الخارجية وتعزيز فرص اندماجهم في مجتمعاتهم المحلية، الوقوف أيضا على أسباب ومنطلقات الطرف المقابل في تغذية الكراهية تجاه مواطنين يتقاسمون معهم نفس الحقوق والواجبات ونفس الرقعة الجغرافية. وفي هذا الإطار، تعتزم وزيرة البحث العلمي في ألمانيا أنيا كارليتسيك، زيادة مخصصات أبحاث مكافحة التطرف والعنصرية، في وقت تشير فيه تقارير استخباراتية إلى أن ألمانيا تنزلق بوتيرة أسرع نحو التطرف اليميني رغم المجهودات الحكومية لكبحه. وتقول كارليتسيك “الحكومة الألمانية ستتصدى بكل قوتها لأوجه التحريض والاستياء المعادي للإنسانية… لكي نتمكن من مكافحة التطرف اليميني والعنصرية بفعالية، نحتاج إلى المزيد من المعرفة عن جذورهما وانتشارهما الحالي ومظاهرهما المتنوعة والخفية في الكثير من الأحيان”. وأكدت الوزيرة أن وزارتها ستواصل من أجل ذلك تعزيز “البحوث الأساسية والتطبيقية” في هذه المجالات، مضيفة “سنوسع بذلك بحثنا الجاري في مجالات التماسك الاجتماعي والأمن المدني”. قوة تهديد إرهاب اليمين المتطرف في ألمانيا كشفت عنها تقارير المخابرات التي تؤكد أن 12700 يميني متطرف “يميلون إلى العنف”. هؤلاء المتطرفون يتواصلون أكثر من ذي قبل عبر الإنترنت. كما كشف المكتب الاتحادي لحماية الدستور الألماني (جهاز المخابرات الداخلية) في عام 2019 أن أكثر من 32200 شخص ينتسبون إلى اليمين المتطرف، ما يزيد على الثلث مقارنة بعام 2018 عندما أعلنت السلطات أن عدد المنخرطين في الشبكات اليمينية المتطرفة بلغ 24100 شخص. أنيا كارليتسيك: أنيا كارليتسيك: الحكومة الألمانية ستتصدى بكل قوتها لأوجه التحريض والاستياء المعادي للإنسانية ويمكن رصد عدد من الملامح التي تجعل من صعود اليمين المتطرف خطرا محدقا بألمانيا، في الوقت الراهن، منها قدرة هذا التيار على الدمج بين العمل السياسي وممارسة العنف الممنهج على أرض الواقع، فضلا عن التحول النوعي في قدراته ارتباطا بالتطور التكنولوجي، وأخيرا التقارير التي تشير إلى اختراقه بعضَ صفوف المؤسسات الأمنية. وفي كفاحها ضد المتطرفين السياسيين والدينيين تقف سلطات الأمن أمام مشكلتين كبيرتين: من يترجم خياله العنيف إلى أفعال ومن يقف وراء ذلك؟ وهذه القضايا ينشغل بها النائب العام كريستوف هيبكير من مكتب الجريمة في الإنترنت في ولاية شمال الراين وستفاليا. فمنذ فبراير 2018 سُجلت حوالي 1000 دعوى جنائية متصلة في أغلبها بالوسط اليميني، وكل دعوى جنائية تقريبا تحولت إلى إجراءات تحقيق. والمشكلة تتمثل في صعوبة “إخراج الناس من السرية”. ويرى مراقبون أن على السلطات الألمانية بمختلف أجهزتها تغيير البنية القانونية التي تسمح بإنشاء الأحزاب السياسة، من خلال سن قوانين تمنع إنشاء أحزاب سياسية ذات مرجعية أيديولوجية متطرفة، فالسماح بإنشاء حزب سياسي يتنبنى فكرا إقصائيا وأساليب عنيفة يجعل للمتطرفين حاضنة سياسية وثقلا داخل أجهزة الدولة التشريعية ولعل حزب البديل من أجل ألمانيا الذي يجاهر بعدائه للمسلمين والأجانب أبرز مثال على ذلك. ويشير هؤلاء إلى الضرورة الملحة لتغيير مفاهيم الحريات السياسية وحقوق الإنسان بما يتوافق مع متطلبات الأمن القومي، الذي أصبح تحت طائلة التهديد من طرف أحزاب راديكالية تستغل هذه الحريات، لتصل في الأخير إلى مؤسسات السلطة وتقوم بمحاربة القيم الديمقراطية وإقصاء الآخر المختلف. في المقابل فإن تكثيف إنشاء أحزاب سياسية جديدة تحمل الفكر الديمقراطي تكون بديلا عن الأحزاب المتطرفة، سيجعل الساحة السياسية الألمانية ممتلئة بأحزاب ديمقراطية منفتحة والتي ستكون بمثابة “قوة مضادة” لأحزاب اليمين المتطرف، كما أن هذا سيجعل من الأحزاب المتطرفة تبدو وكأنها مجهرية سواء في الساحة السياسية أو داخل مؤسسات الدولة. واتخذت سلطات الأمن الألمانية في السنوات الأخيرة عدة إجراءات، بينها حظر بعض المجموعات اليمينية المتطرفة، إلا أن هذه الإجراءات على ما يبدو لم تأت بعد بمفعولها الرادع. وتهدد التطلعات اليمينية المتطرفة مستقبلا على نحو خاص المؤسسات العسكرية والأمنية الحساسة في ألمانيا. لأن تنامي حالات المشتبه بهم داخل المؤسستين أصبح أمرا يؤرق الاستخبارات الألمانية. وأصبح الجنود المتطرفون يشكلون خطرا على زملائهم المنحدرين من أصول أجنبية، إضافة إلى خطورة نشر أفكارهم داخل الأجهزة الأمنية. وتفتقر ألمانيا إلى بيانات موثوقة عن مدى وجود عنصرية داخل أجهزة الشرطة الألمانية. من جهته رفض وزير الداخلية هورست زيهوفر السماح بإجراء دراسة من هذا النوع، رغم توصية المفوضية الأوروبية ومطالب داخلية عدة. وانتقد الخبير الأمني رافائيل بير “التعامل الخاطئ” للسلطات الأمنية الألمانية مع هذه القضية الحساسة وتحدث عن “سياسة رفض خطيرة” من قبل الشرطة. وتتزامن هذه التطورات مع صدور التقرير السنوي لهيئة حماية الدستور (المخابرات الداخلية الألمانية) لعام 2019، الذي قدمه وزير الداخلية في 9 يوليو 2020 وتحدث فيه عن ارتفاع حاد في حوادث العنصرية ووصف التطرف اليميني بأنه أكبر تهديد للأمن في ألمانيا.
مشاركة :