الحلقة المفقودة بين سياسات التعليم العربية الراهنة والتطرف | | صحيفة العرب

  • 9/12/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تكشف النقاشات المحتدمة حول الحلقة المفقودة بين سياسات التعليم العربية وعلاقاتها بالإرهاب أن الوعي بمتلازمة هذه المشكلة لا يزال مفقودا؛ ذلك أن معظم الأنظمة تفتقد إلى الحس الحقيقي بكونها قضية ترتقي إلى درجة الأمن القومي. ومع أن المراقبين كانوا يظنون أن السنوات الأخيرة ستؤسس لواقع جديد يكون فيه الشباب طرفا في بناء دولة حديثة، فإنه على النقيض، كانت الطموحات تتداعى مع غياب فرص ملموسة للتطوير وزرع التفكير الإيجابي في المجتمعات. طرابلس - لا يمكن الجزم حتى الآن بأن الأنظمة الحاكمة الجديدة، التي جاءت إثر الانتفاضات العربية، قد تمكنت من تطويق ظاهرة التطرف الفكري والإرهاب من خلال تطوير السياسات التعليمية، وجعل المناهج الدراسية تتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان، وذلك بالنظر إلى مجموعة من العوامل، التي لا تزال متداخلة تتطلب بحثا عميقا في جذورها. ومن تونس، التي انطلقت منها شرارة ما يسمى بـ”الربيع العربي”، حيث كان التعليم في قمة أولويات المنظومة القديمة منذ الاستقلال، مرورا بليبيا، التي عانت من تجاهل نظام الزعيم الراحل معمر القذافي الاعتناء بهذا المجال طيلة عقود، وصولا إلى كل من سوريا واليمن والعراق، وبدرجة أقل مصر، تبدو القضية مثيرة للاهتمام والمنطقة على أعتاب العام العاشر منذ تفجر الاحتجاجات ضد الأنظمة السابقة. ورغم الإنفاق الضخم من قبل الدول لمكافحة الإرهاب فإن ذلك ليس كافيا، ويزداد إدراك حكومات المنطقة أن تخصيص الأموال لتشديد التدابير الأمنية غير كاف للحماية من هجمات إرهابية يرتكبُها أفراد متطرّفون، والتي لم تتوقف حتى مع أزمة كورونا. ويتفق المراقبون على أن التطرف العنيف بات تهديدا خطيرا يواجه مجتمعات المنطقة، ويمسّ بأمن وكرامة الأفراد، وكذلك سبل عيشهم السلمية والمستدامة. ولعل تحشيد الشباب من أجل الانضمام إلى الجماعات المتطرفة، أو حتى التي تقاتل من أجل فكر معين كما يحصل مع ميليشيات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، له العديد من الدوافع ولكنها تشترك في عدم الاكتراث بالتعليم. وهذه القضية تعكس أوجه القصور العميقة، إذ أن المسألة اليوم تتطلب على وجه الخصوص ترسيخ أسس تعليم مُجد ودامج ومنصف، ومعالجة الظروف الكامنة التي تدفعُ الأفراد إلى الانضمام إلى المجموعات المتطرّفة العنيفة. وهنا يمكن أن نتساءل كيف يمكن للمدارس أن توفّر منصّة آمنة ومفتوحة للحوار والنقاش حول المسائل المرتبطة بالتطرّف والتي تُعتبر حسّاسة سياسيا؟ ويجمع متابعون لما يحصل في المنطقة العربية على أن هناك تفاوتا في سياسات التعليم لدى الأنظمة الحالية، ولكن الاتفاق يحوم حول كونها لم تخرج من مربع الإطار التقليدي، والذي لم يأت بأطر جديدة فعالة، ومن خلال تسليط الضوء يبدو أن ليبيا هي النموذج الأسوأ. وهنا يؤكد خبراء في علم الاجتماع السياسي، أن التعليم وحده لا يكفي لهزيمة الإرهاب، بل يجب زيادة “الجرعة العلمية” في المنظومة ككل، وإدراك أن التعليم لا ينفصل عن الثقافة، كما أن هناك ضرورة لمراجعة ليس المناهج فحسب بل طرق التدريس أيضا. التعليم وحده لا يكفي لهزيمة الإرهاب إذ يجب زيادة الجرعة العلمية مع ضرورة بناء جيل مثقف ولم يكن التعليم في ليبيا بحاجة إلى ضربة أخرى عند تسلل فايروس كورونا إلى البلاد، فقد نال هذا القطاع من الضربات ما يكفي على مدى نصف قرن، وقد كانت البداية متواضعة بعد الاحتلال الإيطالي مع نسبة ضعيفة لمن يجيدون القراءة في ظل شح المدارس وانعدام الجامعات حتى عام 1955 عندما افتتحت أول جامعة ليبية تلتها جامعات أُخرى، بالإضافة إلى المدارس التي انتشرت في أغلب أرجاء ليبيا المترامية. وكان ريع النفط الذي بدأ إنتاجه في ستينات القرن الماضي وراء ذلك، ولقد زاد الاهتمام بالتعليم في أواخر أيام المملكة الليبية وفي السنوات السبع الأولى من حكم العقيد القذافي الذي يرى معارضوه أن التعليم في عهده تلقى أقسى الضربات التي بدأت أولاها عام 1976. وقاد القذافي بنفسه ما سماه مؤيدوه بـ”ثورة الطلاب” التي تم فيها القبض على من لا يوافقون فكره من الطلبة والأساتذة، وتم إعدام بعضهم في حرم الجامعات أمام الطلبة على مدى السنين اللاحقة، ليفر البعض الآخر أو يرضخ للأمر الواقع الذي تجسد في ما سمّي بـ”الإدارة الطّلابية” للجامعات والمدارس. ومع تأسيس حركة اللجان الثورية، التي تحكمت في مفاصل الدولة ومن ضمنها التعليم، قامت بتغيير سبل إدارته ومناهجه تباعاً حتى وصل الأمر إلى إلغاء تدريس اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وتعويضهما بالكتاب الأخضر الذي ألفه القذافي. وفي منتصف الثمانينات تم تجييش المدارس الإعدادية والثانوية وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، وتحويل بعض المعلمين إلى ما سُمي بـ”الضابط المعلم”، بالإضافة إلى تفعيل منزلية التعليم للمرحلة الابتدائية. لم يكن للمعلمين من حيلة، بعد أن صار همهم البحث عن وسيلة للارتزاق مساءً إلى جانب رواتبهم الهزيلة، وأدى هذا إلى عزوف أغلب الذكور عن مهنة التعليم وتصدر السيدات لها. وسردت وكالة الأنباء الألمانية قصصَ وروايات لأشخاص عايشوا تلك الفترة حيث يذكر أحدهم عندما كان عمره 13 عاما أن المدارس في طرابلس انقلبت رأسا على عقب عندما دخلها العديد من العساكر وتغير شكل بعض المعلمين مع الزي العسكري وحتى طابور وتمارين الصباح تحولا إلى جمع عسكري صارم تحسب فيه الحركات. وفي الفصول حلت الدروس العسكرية مكان بعض الحصص، وفي الساحة أخذت دروس التراص والمشية العسكرية من حصة الرياضة، حتى بلغ الأمر تعليم الطلاب كيفية التسابق على تفكيك الأسلحة وإعادة تركيبها. ومن الواضح أن مثل هذه الأعمال كانت لتخلف جيلا بسيطا لا يهتم بالدراسة قياسا بما هي عليه تونس، والتي كان لزعيمها الحبيب بورقيبة رأي مخالف تماما، فرغم الحالة السيئة التي بدت عليها البلاد بعد الاستقلال عن فرنسا في 1956 إلا أنه غامر بالتركيز على التعليم وقد نجح في ذلك. معظم أنظمة "الربيع العربي" لم تقم بإصلاحات، وكنموذج سيء على ذلك ما يحصل في ليبيا ورغم ما شهدته البلاد من أعمال إرهابية منذ الإطاحة بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي، الذي استثمر بدوره في التعليم بشكل كبير، إلا أن البعض يعتقد أنها لا تشير إلى الواقع بقدر ما تشير إلى سياسة ممنهجة قادها الإخوان، وهو يفسر جودة التعليم في البلاد حتى الآن مع كل تلك الظروف. ويبدو أن اليمن ليس في أحسن حال رغم الضبابية التي كانت تلف مجال التعليم قبل الإطاحة بعلي عبدالله صالح، حيث تشير تقارير دولية إلى أن الأطراف المتنازعة زجت بآلاف الأطفال في أتون الحرب، وخاصة جماعة الحوثي المدعومة من إيران، فقد جندت من هم في أعمار الدراسة في ميليشياتها منذ أن سيطرت على العاصمة صنعاء. ونشرت مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان تقريرا هذا الأسبوع ذكرت فيه أن مليوني طفل في اليمن محرومون من التعليم بسبب استمرار النزاع، بين ميليشيات الحوثي والحكومة الشرعية، وهو رقم من المرجح أن يتفاقم إلى ثلاثة ملايين ونصف المليون، في حال استمرت الهجمات المسلحة على المنشآت التعليمة، وإذا لم يتم توفير رواتب أكثر من 127 ألفا من المعلمين والمعلمات الذين لم يتقاضوا رواتبهم منذ أكثر من عامين. ويقول علي محمد، الباحث بالمؤسسة، إن الحوثيين باستهدافهم المؤسسات التعليمية في اليمن، ينتهكون مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، وكافة المواثيق والعهود الدولية ذات الصلة بما في ذلك اتفاقية جنيف لعام 1949 المتعلقة بحماية المدنيين أثناء الحرب. وطالب الهيئات الأممية والمنظمات الدولية بتوجيه الجزء الأكبر من المساعدات إلى العملية التعليمية. وغير بعيد عن ذلك شهدت سوريا إحدى أسوأ فترات تاريخها بعد الاحتجاجات على نظام بشار الأسد، ومع تقدم الأيام وظهور جماعات تكفيرية مسلحة لقلب الوضع، بدأ السوريون ينضمون إلى تلك الجماعات تباعا وهجروا مقاعد الدراسة ليصبح من الصعب اليوم إصلاح ما حصل. ومنذ بداية الصراع قام نظام الأسد، الذي استنجد بروسيا وإيران، بشن العديد من الهجمات على المدارس في شمال غرب سوريا، ما أسفر عن مقتل الكثير من الأطفال والمدرسين، وقتل حقهم في التعليم الآمن. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن هناك ثلاثة ملايين طفل خارج التعليم، إضافة إلى تضرر أو تدمير سبعة آلاف مدرسة. وطبعا هذا الواقع لن يزيد الأمور إلا تعقيدا مع غياب سياسات تعليمية تستقطب وتلزم الأطفال بالالتحاق بالمدارس، وإثر دخول البلد في وضعية اقتصادية صعبة بات من شبه المستحيل أن تتم معالجة ذلك الأمر خاصة أن النظام لا يستطيع السيطرة على رقع جغرافية تسيطر عليها فصائل موالية لتركيا وأخرى تدعمها الولايات المتحدة.

مشاركة :