مبدعون عرب في الأقاصي يحملون أوطانهم ويحلمون بها | شريف الشافعي | صحيفة العرب

  • 9/13/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا تزال تأثيرات شعراء وأدباء وفناني المهجر من العرب منذ مطلع القرن العشرين مؤثرة في ما يكتب ويبدع عربيا إلى اليوم، حيث أضاؤوا الطريق لأجيال وأجيال للاستمرار على نهجهم بتجديد أساليب الأدب والفن العربيين وفتح آفاق جمالية أخرى أمامهما. حتى أن أدباء وفناني المهجر المعاصرين الجدد لم يختلفوا كثيرا عن أسلافهم من حيث الغاية، وهي التجديد مع الانغماس في قضايا الوطن والإنسان العربي، لكن في ظروف أفضل خاصة مع انتشار النشر الإلكتروني والمنابر الافتراضية. في موجاته المتلاحقة عبر أكثر من مئة عام، يحمل الأدب العربي المهجري في البلاد النائية خصائص فنية وإنسانية منفردة بوصفه الأكثر تحررا وثورية ومرونة وانفتاحا على الآخر. ومنذ نشوء مدرسة المهجر الأولى على أيدي الروّاد حتى أحدث أعمال أدباء الأقاصي في يومنا هذا، لم يكن المنفى البعيد عائقا يمنع الأدباء المهاجرين من وصول كلماتهم الإبداعية الصادقة إلى أوطانهم، التي لم ينسوها لحظة ولم ينقطعوا عنها، بل إنهم قد حملوها معهم في قلوبهم بأناسها وأحداثها وقضاياها الملحّة الشائكة. المهجريون الجدد طوّر الشاعر اللبناني وديع سعادة، المقيم في أستراليا منذ 32 عاما، سبل التعاطي مع المنفى والتعبير عنه طوّر الشاعر اللبناني وديع سعادة، المقيم في أستراليا منذ 32 عاما، سبل التعاطي مع المنفى والتعبير عنه لم تنقطع سلسلة حلقات الأدب العربي المهجري منذ بلورة التجارب الإبداعية لشعراء لبنان والشام المهاجرين إلى الأميركيتين بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، حيث أفرزت هذه الحركة بتفريعاتها المتنوعة أسماء نابهة من المجددين، منهم أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبوماضي وإلياس فرحات وغيرهم. شكّل الحنين إلى الوطن والتغني بطقوسه وأجوائه والدفاع عن قضاياه واستشعار مرارة الغربة والتوق إلى التحرر والتمرد ومعانقة الطبيعة، أبرز ملامح هذه المدرسة التي أبى أصحابها نسيان بلادهم وأوجاعها في قصائدهم ذات النزعة الإنسانية التأملية، والصيحات التجديدية على مستوى اللغة والإيقاع والصور والأبنية والرؤى والأخيلة. انتقلت تأثيرات شعراء المهجر الآباء؛ المضمونية والجمالية، إلى أبنائهم وأحفادهم من الحداثيين والمجددين في الإبداع العربي، سواء الذين عادوا إلى أوطانهم بعد فترة غياب، ومنهم اللبناني يوسف الخال، الذي عاد من الولايات المتحدة وأسس حركة مجلة “شعر” في بيروت عام 1957، على غرار مجلة شعر الأميركية، أو الذين ظلوا في غربتهم ومنافيهم البعيدة دون عودة، ودون قطع الصلة مع انشغالات الوطن وذائقة المتلقي العربي. إلى هذه اللحظة الراهنة، لا يزال المبدعون العرب في الأقاصي ظواهر فريدة بالغة الحساسية، مفتوحة على الأزمات العربية بشكل خاص والجراح الإنسانية بصفة عامة، فلم يتشرنق المهاجرون خلف البحار من الشعراء والروائيين والمسرحيين في منافيهم الاختيارية والمفروضة عليهم بفعل الظروف الاستثنائية، وإنما كسروا عزلتهم القاسية بأعمال عابرة للقارّات، مشحونة بسمات مهجرية جديدة، فيها الكثير من السحرية والسوريالية والشطط والجنون والفنيات المراوغة وغيرها من الصفات، التي شكلت إضافة حقيقية إلى المشهد الأدبي العربي المعاصر والحديث. جاء النشر الرقمي وتأسيس المواقع الإلكترونية وانتشار صفحات السوشيال ميديا خلال السنوات الأخيرة ليسهم بشكل كبير في تعزيز التواصل بين الجمهور العربي وهؤلاء المبدعين المقيمين بعيدا، وتعميق التفاعل الحي مع أعمالهم وترويجها في العالم العربي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر؛ الفلسطيني فخري رطروط (نيكاراغوا)، اللبناني وديع سعادة (أستراليا)، السورية فرات إسبر (نيوزلندا)، العراقيان فاروق صبري (نيوزلندا) ومنعم الفقير (الدانمارك)، المصري سيد جودة (الصين)، وغيرهم. ضربات الدهشة بلاد تسافر مع محبيها (لوحة للفنان حسن جوني) بلاد تسافر مع محبيها (لوحة للفنان حسن جوني) وقّع الفلسطيني فخري رطروط عقدا مع ضربات الدهشة والفن المركّز المختزل، وهو شاعر ورسّام ومترجم انتقل إلى نيكاراغوا في أميركا الوسطى منذ عشرين عاما، له دواوين شعرية لافتة، منها: صنع في الجحيم، جنة المرتزقة، 400 فيل أزرق، البطريق في صيف حار. الشعراء لدى رطروط أخطر من السحرة، فالساحر يُخرج من القبعة أرنبا، والشاعر يُخرج من العدم قبعة، ثم يُخرج من القبعة ساحرا هو شاعر الاقتحام الجريء، ليقدّم الشذرات الارتجالية والومضات التفجيرية، التي فيها جموح الخيل وتحليق الطير وبراءة الطفولة. قصائد الشاعرة السورية فرات إسبر مشحونة بالحنين إلى الجذور تأبى الاقتلاع من أرضها الأولى قصائد الشاعرة السورية فرات إسبر مشحونة بالحنين إلى الجذور تأبى الاقتلاع من أرضها الأولى فتح رطروط نصه الجديد على فنون ومذاهب وتيارات عالمية متنوعة، منها الهايكو الياباني، والكولاج، والسوريالية، والدادائية، واصطحب الواقع من حوله إلى حديقة الفانتازيا، مطيحا في تجربته التخييلية المتشابكة بكل الأنساق والأعراف الثابتة، فالشاعر الذي يحدث كثيرا أن يستيقظ وفي رأسه بيضة ديناصور، يرى الحياة بصورة مختلفة. في غربته، التي لم تحرمه من أنفاس بلاده، يراهن على تحدّي المطر المتوحش وليل المنفى وكتائب الموت، فهو يهطل مع المطر، ويشرق مع الشمس، ولا ينتمي إلى الغياب، وإنما ينتمي إلى المرافئ البعيدة، والخيول الراكضة، والأوطان التي تشبه الآلهة، والغابات التي لا تركع للحرائق. بدوره، فإن الشاعر والمسرحي العراقي منعم الفقير، المقيم في الدنمارك منذ عام 1986، يسعى إلى صناعة الوطن بالكلمات، والفكاك من أسر النأي والغياب بالعالم الموازي الذي يخلقه فنّا، ويعيش فيه متناسيا ما حوله من مآسٍ وكوارث في غابة الشتات. لم يكتفِ الفقير بمدّ جسور التواصل مع العالم العربي عبر إبداعاته المكتوبة، وإنما عمل على تفعيل الزيارات المتبادلة وتنظيم المهرجانات الشعرية الدولية، بحضور عربي كثيف، وأدار “تجمع السنونو الثقافي” في الدنمارك سنوات طويلة لهذا الغرض. أما أعظم أمنياته للثقافة ولصناعة الكتب، فهي التعبير عن الواقع العربي، لأن المبدع حسب رأيه ضمير الإنسان العادي في بلاده. قدّم الفقير مجموعات شعرية كثيرة، منها: بعيدا عنهم، أثر على ماء، لا جسد في الثوب، حواس خاسرة، نادرا، أنا الذي رآكِ فكان. على امتداد تجربته في البعيد، لم ينسلخ الشاعر المغترب عن جذوره، ولم يهمل هموم وطنه، فالعراق غرفته، والعالم بيته، وهو أثر على ماء. الشاعر والمسرحي العراقي منعم الفقير، المقيم في الدنمارك، يسعى إلى صناعة الوطن بالكلمات الشاعر والمسرحي العراقي منعم الفقير، المقيم في الدنمارك، يسعى إلى صناعة الوطن بالكلمات أشجار الوجع في غربتها حيث تقيم بالمنفى الاختياري في نيوزلندا، تأتي قصائد الشاعرة السورية فرات إسبر مشحونة بالحنين إلى الجذور، فشجرتها تأبى الاقتلاع من أرضها الأولى، وهجرتها ليست الجرح الأشدّ، رغم مرارتها، لأن الاغتراب والتمزق والألم من نصيب المقيمين في داخل الوطن أيضا، وربما بقسوة أعظم وبقدر أكبر من التضييق والتنكيل. أدلت فرات إسبر بدلوها في شق مسار قصيدة النثر السورية الحديثة، المكتوبة بأنامل أنثوية، وأنتجت مجموعة من الدواوين، منها: مثل الماء لا يمكن كسرها، زهرة الجبال العارية، نزهة بين السماء والأرض، تحت شجرة بوذا. ويأتي القسم الأعظم من نصوصها منغمسا في الواقع السوري المعاصر، خصوصا بعد الثورة والحرب والانقسامات، حيث ترى الأحداث اللاهبة عن بُعد، وتنضج الذات على عشق الوطن، نازفة القصائد دما ودموعا من أجله “اﻟﻴﺄس أﻋﻠﻰ ﻣﻦ اﻟﺸﺠﺮة، وأعلى من الهيماﻻﻳﺎ، وﻛﻠﻤﺎ ﻣﺪت يدها لتقطف زهرة، وجدتْ ﺷﻮﻛﻬﺎ في الصدارة”. وهناك الكثيرون من مبدعي الأقاصي، الذين طرحوا نتاجات إبداعية حديثة ومغايرة للمألوف، أثروا بها حركة الأدب العربي في السنوات الأخيرة، ولم يفقدوا البوصلة في تعاطيهم مع واقع بلادهم الكابوسي، والتواصل مع المتلقي العربي، منهم المسرحي العراقي فاروق صبري، المقيم في نيوزلندا، الذي يرى الفن قفزة من قهر الاستبداد إلى فضاء الحرية، ومنصة للتمرد ومعاكسة السائد المجتمعي. فتح الشاعر فخري رطروط نصه الجديد على فنون ومذاهب وتيارات عالمية متنوعة فتح الشاعر فخري رطروط نصه الجديد على فنون ومذاهب وتيارات عالمية متنوعة منحت محطات المنافي صبري الفرصة الكبرى للتأمل والتعبير بحرية ومواجهة سيف المُحرّمات وكشف المستور وطرح التساؤلات، وقد تجلى ذلك على وجه الخصوص في “المونودراما التعاقبية”؛ مشروعه الإبداعي الخاص لتغيير البنية الكتابية والسينوغرافية للمسرح، ولم يمنعه الاغتراب من العبور بعروض حية إلى عدد من العواصم والبلاد العربية. طوّر الشاعر اللبناني وديع سعادة، المقيم في أستراليا منذ 32 عاما، سبل التعاطي مع المنفى، وآليات التعبير عنه كمعنى جديد “الاغتراب الداخلي، والنفي في الذات”. وقدَّم سعادة نموذجا خاصّا للقصيدة العصرية الهامسة، والمكثفة، والمتحللة من البهرجة والزيف والدعاية والترويج، ولم تمنعه سنوات الاغتراب الطويلة من معايشة آلام شعبه وأزمات بلاده والتفاعل معها، ومثّلتْ نصوصه تطورا ملموسا لقصيدة النثر العربية الجديدة، كطلقة جمالية وتعبيرية مدوّية. أما الشاعر والروائي والمترجم المصري سيد جودة، المقيم في الصين منذ ثلاثين عاما، فقد وازن في انفتاحه على أرضه الأولى بين الكتابة الإبداعية، وتنظيم الفعاليات الثقافية العربية الصينية المشتركة، وتأسيس موقع أدبي إلكتروني بلغات عدة لدعم التواصل بين المبدعين في أرجاء العالم المختلفة. نشر جودة مجموعات شعرية بالعربية، منها: دخان الحب، تساؤلات كاسندرا الحزينة، بين انكسار الحلم والأمل، في هدأة الليل، وفي نصوصه هناك دائما إحساس بالفقد والتلاشي، ورغبة محمومة في الارتداد إلى الوطن؛ الغائب الحاضر. ShareWhatsAppTwitterFacebook

مشاركة :