خير … اللهم اجعله خير

  • 9/13/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الساعة السادسة والربع صباحا ، أحدقُ في مرآة غرفة النوم وإذ بي أسمع في غرفة ابنتي المجاورة أنينا كأنه نوح الحمام !! ماذا يحدث ؟! زوجتي تغلق حقيبة سفر كبيرة وتردد : فاطمة ،أرجوكِ اهتمي بنفسكِ وبصلاتكِ وتغذي جيدا وتواصلي معنا كل يوم !! ماذا يحدث ؟! ما هاتان العينان المحمرتان من أثر الدموع ؟ ولماذا ابنتي ذات الإحدى عشر ربيعا تهم بالخروج من الشقة وهي مرتدية عباءتها وكأنها مسافرة !! هل يجب أن يتوقف قلبي من أثر الذهول والفضول حتى أجد من يجيبني ؟!! لماذا هذا العناق الذي يكاد أن يعصر إحداهما خنقا ؟! بدأت أشك أنني شخص غير مرئي وأني مجرد طيف أو شبح لولا فيض لطف جناب المدام التي أمرتني بحمل الحقيبة التي تزن فوق الثلاثين كيلوغراما إلى الباص في أسفل البناية التي أسكنها !! لحظة .. باص ؟! هل قالت : باص ؟! ضاعت ملامح الاستفهام في تفاصيل وجهي مع صوت جرس الباب وأبواق الباص وصوت مكبر الصوت : هيا يا فاطمة ، لقد تأخرنا !! تأخرتوا ؟ تأخرتوا عن ماذا ؟! سلمت الحقيبة لسائق الباص ، بينما نزلت سيدة منقبة من الباص رحبت بابنتي وأدخلتها الباص بحفاوة .. لحقتهما لأصعد الباص إلا أن رجلا منعني من ذلك باحترام ، وحين سألته عن ماذا يحدث ؟ ابتسم ابتسامة عريضة وقال لي : اعذرني يا أستاذ .. فليس لدي وقت أضيعه !! صعد الباص وأمر السائق بالانطلاق ! أجزاء من الثانية لأخذ قرار : هل أستخرج جيمس بوند الذي بداخلي لأتبع ذلك الباص بجاسوسية احترافية أم أني أكتفي بكونان الذي يستجوب زوجتي التي تركتها تحتضن صورة فاطمة وتبكي !! ” قد يكون خطفا مدبرا ” هذه الفكرة التي تبدو حمقاء جعلتني أذهب مع الخيار الأول .. الباص الكبير توقف أمام كذا بيت في بلدتنا الريفية .. ولا أرى سوى نفس المشهد .. بنات صغيرات يركبن الباص ، إلا أنني لم أر آباء مدهوشين ” كالأطرش في الزفة ” مثل حالتي .. ما هذا ؟ الباص ما إن غادر حدود البلدة ، حتى بلغ الطريق السريع .. وأخذ ينطلق ليخرج من المدينة بأسرها !! سألاحقه حتى لو خرج من القارة .. إنها ابنتي يا سادة !! ما هذا الباص الغثيث ؟ الذي ما إن انتهيت من هذه الجملة الحماسية حتى توقف جانبا !ّ! ما هذا السور الطويل ؟ وما هذه البوابات والأشجار ؟ أين نحن ؟! حاولت أن أدخل بسيارتي بعد الباص إلا أن رجال أمن اعترضوني وسألني أحدهم : إلى أين أيها المحترم ؟ تلعثمت وقلت لهم أن ابنتي في هذا الباص وجئت للاطمئنان عليها .. فقال لي وهو يهز رأسه بالرفض : المعذرة .. لا يمكنك الدخول .. ثم جرى حوار بيني وبينهم ، فيه من عبارات الرجاء والتوسل ما فيه .. وقد أحسست بالغنيمة عندما قال أحدهم : لا بأس .. انتظر في سيارتك جانبا .. وسنتصل بالأستاذ سعود للقائك .. انصعت للتعليمات وتنحيت جانبا بسيارتي .. أخذت جوالي .. تصفحت تطبيق الخرائط لأعرف ما هذا المبنى الكبير الذي تحيطه الصحراء من كل جانب .. ولكن لم تجد محاولاتي نفعا .. وحالة الكهرباء التي تنفض أعصاب دماغي لم تجعلني متعجبا من قوة إشارة النت في جوالي التي لا أبالغ حين أقول أنها أفضل من وضع الإشارة في بلدتي !! أحد رجال الأمن يطرق زجاجة السيارة ..– المعذرة .. الأستاذ سعود مشغول حاليا ( الجلطة في طريقها للدماغ ) ولكنه سيقابلك بعد نصف ساعة ( عاد الدم لشرايين الدماغ) تلك النصف ساعة كانت بمثابة الفرصة لاستراق النظر كلما فتحت البوابة .. كانوا يفتحونها للباصات وبعض شاحنات الخدمات ، ومجموعة من السيارات التي تحمل ملصقات غريبة لم تمر علي من قبل .. هل أنا فقدت الذاكرة ؟ النصف ساعة تلك لم تحمل أحداثا غريبة .. والنظرات التي كنت أسرقها من البوابة عند فتحها وجدت من خلالها أبراج اتصالات ، بنايات مرتفعة ، أشجار في كل مكان ، يبدو أن هناك بحيرة اصطناعية ، قاتل الله الأجهزة الذكية فلم تعد عيوننا زرقاء اليمامة لنلتقط تفاصيل المباني البعيدة .. لا بأس . . ” يا خبر اليوم بفلوس ، بعد  نص ساعة عند أستاذ سعود ببلاش ” بدأت أشك أن سعود هذا أمريكي الجنسية فلقد أتاني بعد نصف ساعة بالدقة .. إلا ما يتبقى من ملامح وجهه التي تغطي ثلثه الكمامة تبقيه ولد ديرتنا .. رحب بي وأخذني إلى غرفة رجال الأمن بعد أن استأذنهم وقال لي بعد أن تعارفنا : تفضل يا أستاذ علي ، بماذا يمكنني خدمتك ؟– فقط .. أريد أن أعلم ما الذي يحدث ؟ ما هذا المكان ؟ وأين أخذتم ابنتي ؟ نظر إلي باستغراب وقال لي: إن الأوراق التي معنا كلها تحمل توقيعك بما يثبت اطلاعك على كل شي !!– أسألك برب الحرمين ، اعتبرني كائنا فضائيا وأجبني ..– لما أنت ممتعض ومتوتر ؟!.. حسنا .. هذا هو المجمع العلمي السادس لمدينتنا .. أخذت في التأتأة .. فقال لي : على رسلك  .. نحن وفي ظروف هذه الجائحة حظينا بهذه المجمعات العلمية التي أشبه ما تكون بالمدن الجامعية والتي تم إنشاؤها كمعسكرات تعليمية لاستيعاب جميع طلابنا وطالبتنا ..– ولماذا معسكرات ؟– حتى يبقون فيها لمدة فصل كامل .. ثلاثة شهور لا يخرجون منها ..– وكيف يعيشون ؟– بل قل وكيف لا يعيشون ؟ هذه المجمعات وفرت لفلذات أكبادنا كل سبل الرفاهية والحياة الرائعة ..– ولماذا لا يخرجون منها ؟– لأنهم في البداية يخضعون لمسحات طبية فلا يختلطون بأحد حتى يتم التأكد أن كل من في هذا المجمع من إداريين ومعلمين وموظفين وطلاب سليمون من الفيروس ..– وماذا عن المصاريف ؟– هذا عطاء الوطن ..– وكيف يمكن للمعلمات أن يبتعدن عن أزواجهن والمعلمين أن يبتعدوا عن زوجاتهم ؟!– هذه المرحلة تحتاج إلى تضحيات .. وحان الدور لأشباه الرسل أن يكونوا جنود الوطن ..– ولكن .. قريبتي الأستاذة رحاب لديها طفل رضيع !! فماذا تفعل هي مثلا ؟– لقد وفر المجمع حضانة خاصة وبإمكانها اصطحابه معها ..– وماذا عن جارتي الأستاذة بتول ، فهي غيورة جدا ولا أظنها تطمئن لبقاء زوجها دون أن تموت شكا في اغتنامه الفرصة للزواج عليها ؟– ولذلك منعت وزارة العدل من إجراء أي عقد زواج ثانٍ في هذه الفترة !!– ماذا تقول ؟ وكيف لابن عمتي الأستاذ عدنان أن يقبل بترك مواعيد أباه المقعد ويأتي هنا في أطراف المدينة ؟!– هناك استثناءات .. بلا شك– وماذا يفعل من استجدت لديه ظروف قاهرة وهو في المعسكر ؟– أيضا .. يستثنى للمغادرة ثم العودة وفق إجراءات صحية صارمة ..– هل أنت جاد .. ولما كل هذا ؟– هذا لتنشة جيل ينضح بالعلم والمعرفة وسط هذه الظروف .. ولهذا فالثمن باهض ..– هل أنت تمزح ؟ لبسُ قطعتين من الجلد في القدمين أهون من فرش البستان بالسجاد .. لماذا ذهبتم إلى الحل الأصعب ؟! والأكثر كلفة وجهودا .. هل يتزعمكم أفلاطون ؟– أحقا تريد معرفة السبب ؟– أجل بالتأكيد .. فراق بعض المعلومات الجديدة أهون علي من فراق ابنتي ثلاثة أشهر .. ثم ما أدراكم كم تستمر هذه الجائحة ؟!.. فهل سيتكرر معسكر رحلة الشتاء والصيف ذي الثلاثة أشهر مرتين في كل عام ؟!– تعال لأطلعك على السبب .. أخذني بسيارته نحو غرفة مظلمة .. بعد أن أقنعني أنه سيطلعني على عرضا سينمائيا يوضح عملقة هذا المشروع الريادي التعليمي .. الغرفة مظلمة لدرجة أنك لا ترى كف يدك .. قال لي انتبه .. تمسك بهذا المقبض الحديدي حتى نصل للمقاعد في نهاية الغرفة وإياك أن تترك المقبض حتى لا تقع .. ما هذا ؟ أهذا وقته ؟ حكة في أنفي .. تركت المقبض فانزلقت قدمي فهويت ولكن السقوط استغرق وقتا طويلا .. يا ويلي يبدو أنني سأخسر عمري فقد تتكسر كل ضلوعي عند ارتطامي بالأرض .. وقبل أن أرتطم بأقل من لحظة .. استيقظت من نومي !! ” لا والله .. من جدك ” كل هذه الدراما .. رؤية منام !! أمي كانت تقول لي دائما .. إذا رأيت في المنام أمرا يزعجك فتصدق فور جلوسك حتى يدفع الله عنك البلاء .. لكن فاتني أن أسألها ولو مرة واحدة بالرغم من تكرارها لي هذه المعلومة عدة مرات .. ماذا إذا كان المنام أمرا يعجبني ؟ فهل أتصدق لكي يحقق الله لي الرجاء ؟! أنا حقيقة لم وإلى الآن لا أعلم .. هل ما رأيته بلاء .. أو عطاء ؟! لكنني تصدقت على كل حال ، بعد أن نصحني أحد الأقارب المعلمين أن أوجه مبلغ الصدقة لإحدى الجهات الخيرية التي تقوم بمبادرة لتأمين أجهزة الكترونية لمنازل الطلبة المحتاجين حتى يوفروا لهم أدوات التعلم عن بعد حتى نجتاز هذه الجائحة قريبا بإذن الله .. ومع كل حيرتي اتجاه أثر هذه الحلول نحو مسيرة أبنائنا وبناتنا العلمية وما رأيته في المنام .. بقيت أردد : ” خير ، اللهم اجعله خير ”   ملاحظة : أي اسم ورد في المقال هو من وحي الخيال ولا يمت لأحد بصلة ما عدا اسمي واسم ابنتي الغالية فاطمة وأعتذر على الدراما التي لا أخفيكم سرا أنها لم تشمل سوى على جزء بسيط من كامل المشهد ..

مشاركة :