بدأت علاقة الأديب العراقي برهان شاوي مع الإبداع بكتابة الشعر والترجمة، قبل أن يتحوّل إلى فضاء الرواية، معللاً ذلك بالبحث عن جنس أدبي يحتوي على أسئلته، ومن خلال أعماله التي تحمل عنوان "المتاهة" لا يظن أن متاهة الحياة ستنتهي. وفي حوار أجرته معه "الجريدة" من القاهرة، قال شاوي المقيم في ألمانيا إن البشر جميعاً بغض النظر عن القومية والديانة والجغرافيا والعصر الذي يعيشون فيه، يمارسون الخطيئة ذاتها، ويكررون الأخطاء نفسها، ويعيشون المشاعر والرغبات والشهوات ذاتها. وأشار إلى أنه اعتمد على جماليات اللغة السينمائية في السرد الروائي، بعد دراسة متخصصة للسينما في موسكو، لافتاً إلى أن الكتابة بالنسبة إليه عملية تطهير روحي وفكري له من أسئلته وخرافاته وعُقده... وفيما يلي نص الحوار: ● بدأت تجربتك الإبداعية شاعراً ثم مترجماً قبل أن تحلق في فضاء الرواية. ما السبب؟ -السبب بسيط جداً. أنا مكتظ بالأسئلة، ولم تعد القصيدة تستطيع أن تضم هذا الضجيج وهذا الزحام من الأسئلة، فبحثت عن جنس أدبي يحتويني ويحتوي أسئلتي، فكانت الرواية، وتوجهتُ إلى الرواية بروح الشاعر الذي في داخلي. قلت في مناسبات أخرى عن سبب توجهي من الشعر إلى الرواية، إن القصيدة تحتكم لمقولة المتصوف الكبير عبدالجبار النفّري: "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، لكن الرواية تحتكم لمقولة أخرى وجدتها تقول إنه "كلما اتسعت الرؤية تفجرت اللغة وفاض الكلام". ● بعد دراسة متخصصة في موسكو للسينما عملت مخرجاً وسيناريست وناقداً. ماذا أضافت لك هذه الفنون الثرية؟ -الفنون البصرية والسمعية، والسينما بالتحديد، علمتني الكثير، فعلى مستوى السرد الروائي أعتمد على جماليات اللغة السينمائية، فهناك مشهدية ولغة صورية جداً في المتن السردي، وهناك اختصار للوصف وللاستطرادات، والابتعاد عن الشطح في الإنشاء السردي، على الرغم من حجم رواياتي الكبيرة، قياساً للسائد من رواية "السندويد" التي يدعو لها النقاد وأعضاء لجان الجوائز اليوم. وأفادتني في التركيز على وحدة الزمان والمكان ومنطقهما، وعلى الاستخدام الروائي للقطات السينمائية في السرد الروائي، وعلمني السيناريو إمكانية السيطرة على التوتر الدرامي للأحداث والنص والسعي الأقصى لضبط حركة الشخصيات والأحداث في الزمان والمكان. تسع طبقات ● ما حكاية "المتاهات" معك؟ وهل تنتهي المتاهات بالوصول إلى اليقين؟ -لا أعتقد أن متاهة الحياة والوجود ستنتهي، مهما تعددت الأجوبة، لكن حكاية "المتاهات" هي أنها تتناص مع القسم الأول من "الكوميديا الإلهية"، وبالتحديد مع "الجحيم" التي تتألف من تسع طبقات، لكني بعد "المتاهات" واصلت الرحلة مع دانتي متجهاً إلى القسم الثاني من "الكوميديا الإلهية"، أي إلى "المطهر" الذي يتألف من تسع طبقات أيضاً، لكني في جميع أعمالي الروائية الصادرة إلى الآن، ومن خلال 304 شخصيات من الأوادم والحواءات، إلى جانب بقية الأوادم والحواءات في الروايات الأخرى، بحيث صارت تقارب 400 شخصية، مستمر في طرح الأسئلة ومستمر في الشك؛ "قلق الشك يمنحني الطمأنينة، وطمأنينة اليقين تقلقني"، كما قالت إحدى الشخصيات في "متاهة إبليس". "المتاهات" لم تصل إلى يقين، إذ تنتهي المتاهة الأخيرة "متاهة العدم العظيم" إلى ما قاله ابن عربي: "ليس في الوجود من يراه غيره، وليس في الوجود شيء باطن عنه، فهو الظاهر لنفسه والباطن عن نفسه" هكذا تنتهي المتاهاة، لتبدأ رحلة جديدة من التيه. آدم وحواء ● تنطلق أعمالك من العراق والعراقيين، لكنها تنفتح على شخصيات من جنسيات مختلفة، هل تقصد أن الهم الإنساني واحد؟ -هذا صحيح جداً. لكني أيضاً أنطلق من تجربتي الحياتية والجغرافية، فقد عشت بين بلدان وثقافات ولغات مختلفة، وتعرفتُ إلى آلاف الأشخاص، وخلاصة رؤيتي المعرفية وجدت أن آدم وحواء، بغض النظر عن القومية والديانة والجغرافيا والعصر الذي يعيشون فيه، يمارسون (الخطيئة) ذاتها، ويكررون الأخطاء نفسها، ويعيشون المشاعر والرغبات والشهوات ذاتها، بل إن سعيهم للسعادة هو نفسه، لم يتغير سوى شكلياً، لتغيُّر الظروف والزمان. الهم الإنساني واحد ورحلة الحياة واحدة. الإنسان وطريد الفردوس المنسي، ولهذا أيضاً أستخدم اسم (آدم) و(حواء) لشخصياتي الروائية، ليس في "المتاهات" وحدها وإنما في جميع رواياتي. عملية تطهير ● أعمالك الروائية هل هي تحطيم للثوابت أم جرس إنذار بهدف التوعية؟ -لا أسعى لتحطيم أي شيء... ولا أدق جرس الإنذار ولا أسعى لتوعية أحد! لست مصلحاً اجتماعياً ولا مرشداً أيديولوجيا، ولا مربياً أخلاقياً، لا رسالة سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية لديّ الكتابة بالنسبة إليّ عملية تطهير روحي وفكري لي من أسئلتي وشكوكي وخرافاتي وعقدي وقد لا يرضى الكثير من الكتاب والمثقفين والقرّاء الأخلاقيين من أصحاب الرسالات الاجتماعية عن كلامي، لكن هذا أمر لا يعنيني، فلا رسالة سياسية أريد إيصالها حتى وإن سردت أحداثاً سياسية. أنا أعلن موقفي من الأشياء، من الاستبداد وسحق الإنسان والاستبداد الجنسي للرجال ضد النساء، وأجسدُ رؤيتي للعالم وللوجود ولمعنى حياة الفرد والجماعة، لا أكثر، وأقصى ما أريده من كتابتي هي أن تحرض القارئ على طرح الأسئلة وتدفعه إلى الشك في كل شيء، من دون التأكيد على صحة أي جواب. قصة طويلة ● تعرضت للسجن والتعذيب. وهربت من العراق إلى سورية ومنها إلى لبنان ومن هناك إلى أوروبا. حدثنا عن هذه المعاناة وكيف أثرت فيك هذه الظروف وانعكست على كتاباتك؟ -هذه قصة طويلة رويت شذرات منها في "المتاهات" من خلال بعض الشخصيات كآدم الواسطي في "متاهة الأشباح"، وآدم المطرود في "متاهة آدم" و"متاهة قابيل"، وآدم الأكويني في "متاهة العدم العظيم"، وكذلك شذرات وفصوص منها في سلسلتي الجديدة، وبالتحديد في الرواية الأولى "فندق باب السماء - الجزء الأول: مملكة الموتى الأحياء" وأنا لا أكتب رواية السيرة الذاتية، لكني أمنح بعض شخصياتي من الأوادم والحواءات بعض تجاربي الشخصية، فأنا أميل إلى الرواية المعرفية من ناحية المضمون والملحمية من ناحية البناء الجمالي والسردي. وجواباً عن السؤال يمكن القول إنني استفدتُ من معاناتي وتجربتي تلك في إضاءة عتمات الأعماق النفسية لشخصياتي ومنح شخصياتي الروائية الواقعية الحياتية. ● أخيراً ما الجديد الذي تعكف على كتابته الآن؟ -كما أسلفت أعلاه أنا أتناص مع ملحمة "الكوميدا الإلهية" لشاعر إيطاليا الأكبر دانتي إليغيري، ففي "المتاهات" كان التناص المعكوس مع "الجحيم"، وفي سلسلتي الجديدة أتناص مع القسم الثاني "المطهر" وستكون تسع روايات أيضاً، وحالياً معتكف على الرواية الثانية من السلسلة الجديدة.
مشاركة :