تطهير الكتابة من القوالب والأكليشيهات

  • 8/15/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أذكر عندما جئت إلى القاهرة من الاسكندرية سنة 1955 سئلت عن أفضل کتاب القصة القصيرة فقلت أنه ليس هناك إلا يحيى حقى ويوسف إدريس، لم أكن قد بلغت الثلاثين يومها ولم أكن قد نشرت كلمة واحدة. من المحتمل أن الإجابة قد تغيرت الآن كثيرًا، لكن لاشك أن لهذين اليائيين دورًا لا نكران له في أكثر من مجال وبخاصة في ذلك النوع الأدبى المراوغ والمرهف وصعب التحديد: القصة القصيرة. ما زلت أذكر ليحيى حقى إلى جانب ذكائه الخاطف ولماحيته وفكره الحميد دماثة وتواضعًا نادرين فى المرة الثانية ربما التي لقيته فيها قابلني بابتسامة عذبة، وعيناه تلمعان قائلًا بأرق ما في صوته من ديبلوماسية «الاستاذ إدوار الخياط". لم أصحح له خطأ كان هو يعرف صحته على وجه القين ولم يكرر هذا الخطأ بعد ذلك أبدًا، لأنه عرف أنني لا أعنى بحال من الأحوال أن أثبت ذاتي، وأؤكد هويتي في مجال التعارف والتعريف الاجتماعي، ولا أريد أن أنسى له أبدًا إنه كان الذي يرفع سماعة التليفون ويسأل ما إذا كنت قد فرغت من كتابة قصة أو ما إذا كنت أحب أن أكتب في موضوع كذا أو كذا.... وبذلك وحده وبمثل هذا، أسر هذا الرجل العظيم قلوب محبيه ومريديه وان لم يكن بطبيعة الحال يتردد في أن يداعبنا دعابات لا تخلوا أحيانًا من ثقل اليد، وأن كانت تلهمها دائمًا روح المودة الخالصة. بعد هذه اللمحات التي تأتي عفو الذاكرة فلعلني أريد فقط أن أشير إلى علامات تجول أحيانًا بخاطرى، وان لم تبلغ قط مبلغ الدراسة والتوثيق. أولا: لعل المأثرة التي تبقى ليحيى حقى والتي قال هو بنفسه إنه يؤثر أن تبقى له حتى إذا ما أغفل إسهامه الواضح المؤثر في تطوير القصة القصيرة، هو أنه معنى باللغة، حفى بها أي أنه في نهاية الأمر لغوى قبل أن يكون كاتبًا إذا صح هذا السرف على أنفسنا وعليه في التعبير. الفكرة التي تثيرني في هذا المضمار هي: أن يحيى حقى لايني يعيد، ولكن لا يزيد في أن هناك كلمة واحدة فقط تؤدى معنى بذاته، أو لفظًا أو تركيبًا لغويًا فقط يفي بمقتضيات إحساس ما، أو موضوع ما. وليس لهذه الكلمة أو اللفظ أو التركيب من بديل وليس أمام الكاتب من مناص أن يجد هذه الكلمة بالذات... ولعل ذلك في السياق التاريخي للكتابة عندنا فتح له أهمية كبيرة في السعي نحو تنقية الكتابة من الترهل وفرز كل حشو عنها وتطهيرها من القوالب المألوفة والأكليشيهات التي تجرى على القلم مجرى كأنه لا واع. ولكن (هناك دائمًا لكن) ألا يرى الكاتب العظيم واللغوى العظيم أن تلك المقولة (إذا صحت هذه الكلمة) تفترض أن هناك ذلك الإحساس أو ذلك المعنى أو ذلك الموضوع محددًا قائمًا بذاته هناك في الخارج، مفروضًا وسابقًا، وماثلًا وعلى الكاتب أن يقتضه بتلك الكلمة أو اللفظ إلى آخره؟. فهل هذا النوع من الفصل القاطع الحاسم بين «الدال» و«المدلول» برطانة هذه الأيام مقبول حقًا؟ أم أن كلمة بعينها تسهم هي نفسها في تكوين وإيجاد ذلك المعنى أو الحس الذي لا يتبلور قط إلا بها؟ أي أن الكاتب لا يجد بل يوجد. لا يبحث عن حقيقة واقعة ماثلة خارج الكتابة بل إن حقيقة الكتابة لا تتولد إلا بها نفسها وبتفاعل متبادل بين شقين هما في تصوري عنصر واحد أو جوهر واحد ليس فيه أقنومان. 1989* * كاتب وروائي مصري «1926 - 2015».

مشاركة :