تقدم في السن، ولكن الحيوية لم تفارقه. ولم يضعف ميله إلى الناس. وبقي قلمه لاذعاً ورأيه قاطعاً. هو مرجع اليسار، ومستودعه والعلم على معتقداته وأخطائه. وهو عاد عن أخطائه عودة الصدوق والأمين. رحل جان لاكوتور قبل أيام، وطوى معه مرحلة من تاريخ فرنسا: مرحلة العودة عن الاستعمار والديغولية (نسبة إلى شارل ديغول) المكروهة والمحترمة في آن معاً، والسياسة الميتيرانية (نسبة إلى فرانسوا ميتيران) الملتبسة، ومرحلة كبار القرن العشرين وكبار صحافة تلك الأيام الملتزمين بقضايا سياسية واجتماعية. لم تظهر علامات السن عليه وكأنه دوريان غراي، بطل رواية أوسكار وايلد: دارت ظنون على أنه يحتفظ بلوحة سرية في منزله تشيخ نيابة عنه. ولم يخبُ بريق عينيه يوم كان في الثمانين من العمر، وكانت قامته المنتصبة قامة راقص. ولم يغز الشيب شعره المتلبد والمتجعد. وسحنة وجهه سفعتها الشمس ولفحتها وأصابتها باسمرار أزلي. كثر كانوا يرتبكون أمام يسر إقباله على الكتابة وسرعة صوغه المقالات. وهو نشر 70 كتاباً موسوعياً. ويحتفظ كثر من الفرنسيين ببعض أكثر كتبه ذيوعاً، منها كتاب عن ديغول وآخر عن ميتيران وثالث عن بلوم.... وهذه نماذج سير كان يفتخر بتسجيلها مع أصحابها. وفي صحيفة «لوموند» كان في مثابة شخصية راعي البقر «لاكي لاك» المشهور بسرعة إطلاقه النار على ظله: كان أسرع من يبادر إلى صوغ تقرير في السياسة الخارجية في عشر دقائق بواسطة آلة كاتبة دقيقة وسريعة الطلقات والضربات. واعتداده بنفسه كان كبيراً، ولكنه اتسم بحس فكاهة متواضع ولاذع. وكان يقول عن جان دانيال، مؤسس مجلة «فرانس اوبسيرفاتور» («لوبس») اليوم، وشقيقه في الصحافة وصديقه الصدوق، أنه يبغض أمرين:» أن نكتب كتاباً على أحسن وجه أو مقالة على نحو سيئ». ندم أمومي وثمة جرح لم يندمل في حياة نضاله: حين كان في العشرين من العمر، التحق بسيانس بو في 1940 عوض الانضمام إلى المقاومة. وطوال الحرب كان رجلاً أنيقاً ينأى عن السياسة وشؤونها ويراقب من بعيد نزاع أنصار بيتان (الموالي للاحتلال الألماني) وديغول. وفي 1944، التحق، ولو متأخراً، بالمقاتلين وشارك في حصار منطقة رويان، جنوب غرب فرنسا. وطوال حياته، أسف لتأخره بالمشاركة في مقاومة الألمان، على رغم أن كثراً من الفرنسيين وقفوا مثله موقف المتفرج. وهو أسرّ إلى صديقه المراسل الكبير والكاتب، كلود غيلبو، أن والدته- وهي كانت تستمتع يومياً إلى راديو لندن، وكانت ديغولية الهوى وقومية- كتبت له تبلغه أسفها لعدم التحاقه بالمقاتلين. ولم يكن من اليسير عليه الكلام على موقف والدته، ورافقه شعور بالعار البنوي. وربما كان هذا الشعور بالندم والأسف وراء نضاله من أجل إنهاء الاستعمار في 1945، في وقت لم تكن حظوظ هذه القضية واعدة. وشغل منصب الممثل الإعلامي للجنرال لوكليرك في الهند الصينية الفرنسية وقابَل هو شي مِنْه، وحمله على محمل الأبطال. وسرعان ما احترف الصحافة في عدد من الصحف منها «كومبا» و «لوموند» و «فرانس سوار». فتابع من كثب المسار الدموي المتعرج لحروب الاستقلال، وانحاز على الدوام إلى الشعوب المُستَعمَرة. وسرعان ما تفوق في هذا النوع من الصحافة المترجحة بين التحقيق والتحليل الملتزم. ووصفه بعض من أصحاب الأقاويل وألسنة السوء بمراسل السفارات الذي يُستقبل استقبال المسؤولين ويلتقي قادة المقاتلين أو الديبلوماسيين والرؤساء، ونادراً ما يلتقي عامة المقاتلين أو الناس. ولكنه كان من أفضل من زود الصحافة بالمقالات الغنية بالمعلومات التفصيلية والدقيقة. وربطت علاقات إلفة بينه وبين عبدالناصر وجياب وبورقيبة وبن بركة. وحين لم ينصرف إلى كتابة المقالات، شغلته كتابة الكتب. ولاكوتور كان ديموقراطياً شب على الكاثوليكية، ودافع عن شيوعيي دول العالم الثالث وكان رفيق دربهم. وغض النظر عن الجانب العنيف والشمولي من أنظمة قمعية مثل نظام هانوي الستاليني، وسلط الضوء على توق فيتنام الشمالية إلى الاستقلال والأمل في المساواة. وكان مناوئاً للأميركيين ومعادياً للاستعمار. وحين بلغ الخمير الحمر السلطة في بنوم بنه، عاصمة كمبوديا، دافع عن النظام الجديد واعتبر أنه حركة مقاومة ضد حكومة «أميركية الصنع»، في وقت كان هذا النظام يرحل مئات آلاف الكمبوديين ويتركهم لمصيرهم الأسود والموت في معسكرات العمل أو غرف التعذيب. ولكنه على خلاف عدد من الأغبياء الذين توسلت بهم الأنظمة الستالينية، أقر بخطئه قائلاً: «التزمت نهجاً إخبارياً انتقائياً تستر على طابع نظام شمال فيتنام الستاليني. وحسبتُ أن الصراع ضد الإمبريالية الأميركية هو قضية عادلة، فأرجأت النظر في طبيعة النظام الحقيقية إلى ما بعد الحرب. وفي كمبوديا، انزلقت إلى الخطيئة عن جهل وسذاجة. ولم يكن في متناولي التأكد من صحة المعلومات... وكان قادة الخمير الحمر ينتسبون إلى الماركسية، ولم أدرك جذور «الكليانية» (التوتاليتارية) الضاربة في نظامهم...». ووراء كل رجل عظيم امرأة، يقول المثل الذكوري. ووراء جان لاكوتور كانت امرأة قوية، سيمون لاكوتور. وكانت مثله صحافية ملتزمة، التقى بها حين وقع كتابه الأول عن عبدالناصر. وصار مرشدها ومحبوبها إلى حين وفاتها. وتولت تنظيم كل تفاصيل حياته ولعبت دور موثقة أعماله والقارئة المراجعة لها.
مشاركة :