يبدو أن عادة الحكي المتداخل واشتباك الأصوات، بل وتناصّ الحكايات، يعود إلى عادة أصيلة في الذهنية الشرقية بسطت نفوذها على جغرافية شاسعة، تجلّت ولا تزال في مجالسنا، إذ لا يحلو الوقت إلا بها، حادثة تُروى، تتلوها حكاية مشابهة يستشهد بها آخر، ثم تقود الحكايات إلى التفافات ووقفات مع الحوادث والقصص جمعها كل منّا على مدار الغياب، ليفرغها على مسامع الجمع ذات لقاء. وقد أشرت في المقال السابق، عن توالد الحكي في نصّ ألف ليلة وليلة، والمحفز الرئيس له دفع الأذى المتمثل في الملل أو القتل، ولما كان التعويل على شهرزاد في السرد وتقويم سلوك الزوج المجروح، ولأن الملل شكل من أشكال القتل، فقد سعت حكاياتها في غرائبيتها وتطرّفها إلى إضفاء الروح السحرية الجاذبة لاستمرار المتلقي في الإصغاء والمتابعة الضامنة للبقاء، بل واستلذاذ الانتظار. وكان من فطنة شهرزاد أنها لم تنهِ ليلةً بحكاية، فبعض الحكايات تستغرق ليالٍ عدة لاستطالتها بالمتوالد فيها، وأما الحكايات القصيرة فلعلها سردت منها الكثير المتتالي الذي لم يكفِ في العادة لختام الليلة، فجعلت للختام حكاية طويلة تقطعها لتتمها الليلة المقبلة. وكما في السرد الشرقي، كان التشكيل المرتبط بالشرق. وهنا أتوقف عند لوحة من القرن الخامس عشر أي قبل ظهور ترجمة أوربية للحكايات بحوالي مئتي عام، إنها لوحة العشاء الأخير للإيطالي ليوناردو دافنشي المستوحاة من الكتاب المقدّس والديانة المسيحية الشرقية، فيصوّر فيها المسيح وهو مرتكز اللوحة، في اجتماعٍ مع الحواريين على مائدة الطعام، يتكررالأشخاص، ستة في كل جانب ليصبح المجموع ثلاثة عشر، يمتدون في اللوحة من المنتصف إلى الطرفين، ما يوحي بحكاية مركزية تُداوِل الكلام في الجناحين الأيمن والأيسر، فيستمر التفاعل، الرؤوس تميل أحدها نحو الآخر بنظرات تستجلب المزيد من الكلام، وثمة اقتراب يتطلب الهمس، هذا الارتفاع والانخفاض في وتيرة الصوت يوحي بالاشتباك والتداخل، أما الأيدي المشيرة بامتداد الأنامل إلى بعضها تجعل الجميع شريكاً بالتساوي في الليلة، حتى نكاد نسمع الجلبة التي يضبطها هدوء المسيح وإنصاته، كل ذلك يجعل الإيقاع حارساً لسريان الحياة في اللوحة. والملفت للانتباه هنا قلة من الأشخاص الذين يشيرون بالأنامل في غير اتجاه رؤوسهم، فأجد فيها إشارة إلى حديث يخرج عن سياق الليلة، ويفرّعها في اتجاهاتٍ أخرى، تشبه في ذلك عادة المجالس الشرقية وتفاصيلها وعلى رأسها حوادث الغدر والخيانات، خاصة وأنّ المسيح قد صرّح في ليلته عن نبوءة خيانة أحد أصحابه له، ما أثار اضطراب الحواريين واستدعى الحديث الجماعي، ولعل هؤلاء يحاولون الاستدلال على المقصود بما يبطنونه من قرائن، يظهر ذلك في اتجاهات أيديهم التي خالفت رؤوسهم. وعلى اختلاف المجالس وطبيعة الحكي، فقد تأثر الفنانون الأوروبيون بالشرق وحكاياته، كما حدث لدافنشي مع مشاهد دينية إنجيلية، فرسم الألماني فرديناند كيلر أواخر القرن التاسع عشر لوحة شهرزاد وشهريار في مشهد الساردة والمنصت حيث تبدو السلطة المطلقة للحكاءة ووهج الحكي الذي يشرق في وجهيهما. شهريار وشهرزاد - فرديناند كلير مريم الزرعوني
مشاركة :