مُنح البير كامو الروائي والفيلسوف الفرنسي المبدع جائزة نوبل للآداب سنة 1957م وهو لم يتخط الرابعة والأربعين من عمره، عن رواياته التي من أبرزها: (الغريب، الوجه والقفا، أعراس، أسطورة سيزيف، الطاعون، الإنسان المتمرد) والتي لخص فيها فلسفته على أن الإنسان يمكن أن يجمع بين العقل والجنون وبين الفوضى والرتابة وبين التوتر والاستقرار ويكون سلاحه في ذلك هو التمرد. بدأ اهتمام البير كامو بالأدب والكتابة مع ذلك الاهتمام الذي زرعه فيه أستاذ مادة الفلسفة لوسيان جيرمان الذي أذهلته مواهب كامو ونبوغه فقدمه لنيل منحة الصف الثانوي إبان دراسته في مدرسة جان جرانيه في الجزائر، ولقد بدأ هذا الاهتمام ينمو ويتزايد بعد أن أنهى دراسته الجامعية حيث قام بنشر أول كتاب له: «الوجه والقفا» وهو عبارة عن كتابات قصصية قصيرة ذات طابع وجداني، ثم أصدر كتابه الثاني: «أعراس» له أيضا نفس الطابع القصصي الوجداني، ثم بدأ اسمه يلمع على المستوى الأدبي بعد صدور روايته الأولى «الغريب» سنة 1942م، وبعد ذلك توالت مؤلفاته تباعــا فنشر روايــة «أسطورة سيزيف» و»الخطــأ» و»كاليجولا» و»الطاعون» و»حالة حصار» و»العادلون» و»الإنسان المتمرد».. إلخ. تفصح روايات كامو عن سمتين بارزتين: نزعة عبثية فطرية وأخرى تأكيد دائم على معايشة المرء لبيئته معايشة مادية، ويناقش كامو كلا السمتين من منظور الإحباط الفكري من جهة واللذة الحسية من جهة أخرى، ولا يزال دؤوبًا على ذكر علاقة التضاد بين «رهبته للموت» وبين «ولعه بالحياة» ملتمسًا في التوفيق بين التجربتين طريقا وسطا بين المواقف المتطرفة في كل من التفكير والسلوك، وكان بمقدور كامو أن يدخل عنصر التلوين المتجدد على المقالات والمسرحيات الأولى التي كتبها، وذلك في بحثه عن موقف معتدل بين الرغبة في الحياة والفزع من الموت وبين انتشاء الحس وصرامة العقل وبين نزعة الشك ونزعة الفناء، ولقد تمخض ذلك الخلط بين الانتشاء والإحباط في آخر الأمر أن أتيح لكامو الحصول على أساس للتمرد ولو أنه أفضى به في بادئ الأمر إلى موقف وقتي من الإذعان والانعزال، ولقد أعطى كثير من قراء كامو قدرًا كبيرًا من الأهمية لما اتسمت به نظرته التشاؤمية من حدة وعنف، ومن أبرز سمات هذه النزعة أنها تبلورت في جوهرها على خلفية من الإشراق الذي يتسم به إقليم البحر المتوسط، لقد أولى كامو الاستجابة الشخصية للسعادة أهمية كبرى فجعلها محورًا لما تناوله من موضوعات حيث قال في لقاء تم معه: «عندما أحاول اكتشاف أهم ما يقبع في نفسي ويتأصل في ذاتي فلا أجد إلا اشتياقا للسعادة، كما أجد في صميم مؤلفاتي إشراقا لا يخبو وضوءًا لا ينطفئ». إن أي قراءة لأدب البير كامو والتعرف على سماته وفكره الفلسفي يوحي بوجود ثنائية لديه ألا وهي «ثنائية الأضداد»، إنه يتكلم عن الشمال والجنوب، عن الخير والشر، عن الجمال والقبح، عن الفقر والغنى، عن الشمس والظل، عن المنفى والملكوت، وهذه الثنائية تولد قضية في أدبه، ويريد بها أن يدافع عن الحرية في وجه الظلم وعن العدالة في وجه الجور وعن التسامح في وجه الطغيان. ولئن كان كامو فلسفي النزعة فمن الواضح أنه لم يكن معنيا بمصطلحات الفلسفة الفنية ومفرداتها اللغوية، إذ لم يشعر أن لديه حاجة إلى هذه التحفظات الفكرية أو التشعبات المنطقية، كان فكره يصدر مباشرة من خلال صور قوية يربط فيما بينها بموقف شخصي يبثه بلغة الإنسان العادي وبمعقوله العام، وهذا هو الذي ميزه عن الفلاسفة المنهجيين كجان بول سارتر وأندريه مالرو وجورج هيجل وغيرهم بحيث كان الجدل معهم ضربا من العبث، إن روايته (الوجه والقفا) تحدد معالم كون خفي فانتقاء الصور والمشاهد عام وشخصي، والامتداد الذي أعطاه كامو لهذا العالم النفسي يعتمد بالضرورة على قدرته الخيالية على تجديد هذه الصور والمشاهد، فهذه الصور متوترة ومقولبة ولا مجال فيها للاستطراد أو الاسترخاء، وبذا تفرض نفسها بقوة على خيال القارئ، والتأملات التي يحوكها كامو حولها تؤكد توترها وتماثلها في الأساس وتكاد تحولها إلى أمثلة محددة دون أن تكون فِــكَـــرًا مجردة، وهذه المعالجة التحكمية الصارمة لموضوعات هي في الأصل عاطفية وصورية من سمات كامو وخصائصه. وفي كتابات كامو عن العبث يتضح هذا المفهوم الجدلي الذي تطرق إليه وعالجه وحاول أن ينتقل من خلاله من العالم المُجسَّد إلى العالم المُجرَّد حيث يؤكد أن الذهن والعقل كلاهما لا يستطيع أن يخترق أغوار الصمت المطبق إزاء حياته، وتفصح مقالات كامو عن سمتين بارزتين: نزعة توحدية فطرية وتأكيد دائم على معايشة المرء لبيئته معايشة مادية، ويناقش كامو في هذه المرحلة بصفة أساسية كلا الطرحين: الإحباط الفكري من ناحية واللذة الحسية من ناحية أخرى، ولا يزال دؤوبًا على ذكر علاقة التضاد بين «جزعه من الموت» وبين «غيرته على الحياة» ملتمسا طريقا وسطا للتوفيق بين التجربتين وبين المواقف المتطرفة في كل من التفكير والسلوك وذلك رغبة منه في إدخال عنصر التلوين المستمر على المقالات الأولى التي كتبها في بحثه نحو موقف وسطي بين الرغبة في الحياة والفزع من الموت وبين انتشاء الحس وصرامة العقل وبين النزعة الفنائية ودوامة التشكك، ولقد تمخض عن المزج بين الانتشاء واليأس في نهاية المطاف أن أتيح لكامو الحصول على أساس للتمرد ولو أنه أفضى به في بادئ الأمر إلى موقف وقتي من الإذعان والانعزال الرواقي. لم يكن كامو أول إنسان يتوجس من فكرة الموت، وهذه معضلة كبرى عايشها في حياته جعلته يكره كل أشكال المرض الذي عادة ما يمهد للموت، لقد تعلق كامو بالحياة إلى درجة لا يمكن تصورها، كما لم يكن أول من يتوق إلى انتزاع السعادة من اللحظة العابرة بيد أن الذي يفرقه عن غيره هو أن حاجته للسعادة مقرونة بحاجة أخرى لا تقل عنها قوة وإلحاحًا وهي شعوره بالمسؤولية تجاه الإنسانية المعذبة. لقد وضعت هذه الرحلة القصيرة نقطة النهاية في حياة قصيرة لكامو أديب العبث الذي مات عبثا وعاش طوال حياته يفلسف العبث، أديب قبض بإحدى يديه على شمس الجزائر الباهرة وباليد الأخرى على أضواء باريس الساحرة، وباليدين معا أضاء شعلة المعرفة وطفق ينير عتمات الكون ودهاليز الحياة وسراديب النفس الإنسانية، نعم البير كامو عاش حياة لم تخل من العبث والتمرد لكنها حياة حافلة بالتفوق والعطاء ونبذ الظلم وحب الإنسان.
مشاركة :