بدأت مفاعيل الاتفاق الأميركي - التركي حول استعمال قاعدة «أنجرليك» الجوية في جنوب تركيا بالظهور مع اعتزام واشنطن نقل قسم كبير من أسطولها الجوي إلى تركيا للمساهمة في الحرب على تنظيم داعش، فيما ستستمر الولايات المتحدة في استعمال قواعدها الأخرى من أجل دعم العمليات التي يقوم بها الأكراد ضد التنظيم في شمال سوريا. وتضطر الطائرات الأميركية للطيران مسافة نحو 1609 كيلومترات من القواعد المختلفة الموجودة في الخليج من أجل مساندة الأكراد في سوريا، بينما سيتم خفض هذه المسافة إلى نحو 400 كيلومتر عند استعمال القاعدة التركية الاستراتيجية، بعدما باشرت الولايات المتحدة نقل الأسطول الجوي رقم 480 الموجود في ألمانيا إلى القاعدة. وقال الناطق بلسان الخارجية التركية تانجو بيلتش لـ«الشرق الأوسط»، إن أنقرة اتفقت مع الأميركيين على خلق منطقة «من دون مخاطر»، قائلا إن هذه المنطقة بالمفهوم التركي ليست «مناطق آمنة». وأكد أنه ليس في الحسابات التركية حاليا دخول الأراضي السورية، مشيرا إلى أن هذه المنطقة سوف تفرض بقوة النار التركية، سواء بالضربات الجوية أو بدعم الجيش السوري الحر، وهكذا تتحول هذه المناطق إلى مناطق آمنة فيما بعد تكون صالحة لاستضافة اللاجئين السوريين. وشدد المسؤول التركي على أن بلاده لا تريد «داعش» أو أي منظمة إرهابية أخرى جارة لها، مشيرا إلى أن العمليات التركية سوف تستمر حتى تحقيق أهدافها. وفي وقت تبدو فيه المعارضة السورية أكثر المتحمسين لقيام مثل هذه المنطقة سواء في الشمال أو الجنوب السوري، لما لها من ارتدادات إيجابية على دورها العسكري وقتالها النظام والتنظيمات المتشددة على كلّ الجبهات، فإن الدول المعنية بالوضع السوري لها حساباتها، وهي تدرس ارتدادات مثل هذا الخيار. في الوقت الذي يظهر فيها أن الجانب التركي هو الأكثر قبولاً لهذا الخيار، لسببين أساسيين، الأول إزالة خطر الإرهاب الذي يمثله تنظيم داعش بعد التفجيرات التي نفذها هذا التنظيم أخيرًا في الداخل التركي. والثاني أمنها الاستراتيجي بما يحول دون قيام كيان كردي على حدودها، ستكون له تداعيات على مستقبل أمن تركيا الداخلي. وقد تبلورت الأفكار التركية عبر إعلان أنقرة أمس عن توجهها لإنشاء أربع مناطق عسكرية في مناطق سورية متاخمة للحدود التركية. وبغضّ النظر عمّا إذا كانت المنطقة العازلة ستبصر النور قريبًا، أم أنها ستبقى رهن الإرادة التركية الأميركية المشتركة، فإن لها أسبابا موجبة وملحّة بحسب قناعة المعارضة السورية، فقد توقع مصدر بارز فيها أن «تشهد الساعات المقبلة تطورات هامة على هذا الصعيد». وأعلن المصدر لـ«الشرق الأوسط» أن «الساعات الأربع والعشرين المقبلة ستحمل تطورًا كبيرًا في ما يتعلق بإقامة المنطقة العازلة في الشمال». وشدد على أن «المؤشر الأهم على إقامة المنطقة العازلة هو إعلان تركيا أن منطقة كلس باتت منطقة عسكرية وطلبهم من السكان إخلاءها». ورأى عضو مجلس القيادة العسكرية في الجيش الحر أبو أحمد العاصمي، أن «ثمة أسبابا كثيرة وجوهرية لإقامة المنطقة العازلة في الشمال، ومنها إعادة اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا وحمايتهم من عمليات انتقامية قد يلجأ إليها النظام، ومنع التقسيم في سوريا، ولجم محاولات الأكراد إنشاء حكم كردي مستقل، وضمان وحدة الأراضي السورية، وجعل المنطقة العازلة عاملاً محفزًا على حماية الأمن السوري - التركي على حدّ سواء». أما العامل الأكثر إيجابية للمنطقة العازلة في الشمال، بحسب رأي العاصمي، فهو أنها «ستدفع المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالجيش السوري الحرّ كقوة عسكرية شرعية جيدة في سوريا، بعد أن يتسلّم هذه المنطقة، . وعن إيجابيات المنطقة الآمنة في الجنوب يرى العاصمي أن «فرض هذه المنطقة في الجنوب سيكون أسهل وأفضل من الشمال، لأن ميزان القوة في الجنوب يميل لصالح قوى المعارضة، وتسهل عودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم، وتكرس القوة العسكرية للجيش الحر والمعارضة على امتداد هذه المنطقة». في المقابل اعتبر الخبير الاستراتيجي اللبناني العميد المتقاعد نزار عبد القادر أن «ما يحصل اليوم ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: «حبلت في تركيا.. فولدت في سوريا». ويرى أن «هناك ضرورات سياسية وأمنية تركية فرضت على (الرئيس التركي رجب طيب) إردوغان وحكومته خيار الدخول العسكري في سوريا، جعلته يقنع الأميركيين بما ذهب إليه، رغم أن الأميركيين لم يكونوا مرتاحين للنيات التركية». وفي قراءته العسكرية الأمنية للدور التركي المستجد في سوريا، قال عبد القادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «المؤشر الأول لدخول تركيا على خط الحرب في سوريا كان بحجة قتال (داعش)، وهي أقدمت بموازاة ذلك على فتح قاعدة (أنجرليك) للطيران الأميركي، لكن الحقيقة تخفي حاجة أمنية تركية تقوم على ضرب حزب العمال الكردستاني، والتخريب على مشروع أكراد سوريا، ومنعهم من إقامة حكم ذاتي على حدودها». ولفت إلى أن «الفريق الأوروبي داخل المجموعة الدولية، لا سيما الألمان، كان متنبهًا للنيات التركية، وحذّر منها، واليوم نجد أن الحكومة العراقية بدأت تصرخ وترفع الصوت دفاعًا عما تسميه سيادة أراضيها، ردًا على القصف التركي للأراضي العراقية التي يوجد عليها حزب العمال الكردستاني». وأكد عبد القادر أن «تطورات دخول أنقرة الحرب في سوريا، ما هي إلا وجه من أوجه الصراع التركي - الإيراني، وما يخشاه السوريون أن يكون هذا الصراع طويلاً وأن يكونوا ضحيته، وألا يصلوا بسببه إلى الاستقرار الذي ينشدونه»، مضيفًا أن «المعارضة السورية منذ عام 2011 وهي تعيش على أمل تحرك المجتمع الدولي والدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية، وتدخلهم لوقف معاناتهم، لكن يبدو أن أولويات القوى الدولية في مكان آخر، «ولذلك أرى أن الحرب في سوريا طويلة، وليس في الأفق أي طرح يقوم على عمل جدّي لإنهاء معاناة الشعب السوري، لا في عمل عسكري حاسم ولا عبر حل سياسي قريب». وعن إمكانية إقامة المنطقة العازلة في الجنوب السوري، رأى الخبير الاستراتيجي أن «المنطقة العازلة في الجنوب لها مبرراتها العسكرية والسياسية وحتى الإنسانية، لكنها بعيدة المنال، إلا إذا حصل تطور يتعلّق بأمن الأردن ويعطي ذريعة للجيش الأردني بإقامة منطقة آمنة لإعادة اللاجئين السوريين إليها». لكن مثل هذه المنطقة له محاذيرها وفق قراءة عبد القادر الأمنية، فهو يؤكد أن «صعوبتها تكمن في قربها من مثلث الحدود الأردني السوري الإسرائيلي، والسؤال: هل ستكون إسرائيل على الحياد؟ وهل تقبل بفرض حظر طيران في مناطق التماس بينها وبين الأردن وسوريا؟». وقال: «إن إقامة مثل هذه المنطقة تتطلب دخول قوات برية لحماية المواقع الأمامية فيها كي لا تتكرر تجربة البوسنة، حيث ارتكبت القوات الصربية مجازر بحق الشعب البوسني، كما أنها تحتاج إلى حماية جوية قاطعة، ولا أعتقد أن الأميركي يقبل أن يكون طرفًا فيها، خصوصًا أننا نرى عملياته اليوم ضد (داعش) انتقائية». وجدد عبد القادر تأكيده أن «العامل الوحيد الذي يفرض منطقة عازلة في جنوب سوريا هو وضع اللاجئين الموجودين في الأردن، وهو ما قد يشجّع التحالف الدولي والدول الخليجية على المؤازرة، لكن الدول الخليجية تبدو غير جاهزة لذلك في هذه المرحلة بسبب انشغالها في الحرب القائمة في اليمن».
مشاركة :