التاريخ يكمن في الأسطورة كما هي تكمن في بنية السرد التاريخي

  • 8/1/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بين التاريخي والأسطوري هناك منطقة مثار جدل حول مدى حقيقة التاريخي وتداخله بالأسطوري الخيالي، وكيف للخيال أن يتداخل في السرد التاريخي، ويضفي عليه طراوة، وما العلاقة العضوية بين التاريخ والأسطورة، وسائر ضروب الإبداع الخيالي البشري الذي نسميه إجمالاً الخيال الشعبي، ففي حوار أجرتهُ مجلة العربي مع المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم، أحد أهم رواد المدرسة التاريخية منذُ الربع الأخير من القرن العشرين، تحت عنوان الخيال الإيجابي وسيلة المؤرخ لإعادة بناء الماضي يتبحر الدكتور عمر عبدالعزيز منير في أبعاد العلاقة بين التاريخ والأسطورة، كما يراها المؤرخ قاسم. ينطلق الدكتور عمر بتساؤلات حول ما إذا كانت الكتابات التاريخية الملتزمة بأصول العلم التاريخي تخلو من الخيال، وهل تتنصل الدراسات التاريخية الحديثة بمنهجها الصارم الذي يرمي إلى استرداد الحدث والظاهرة التاريخية من ذمة الماضي، من أي شكل من أشكال الخيالي. ليبين لنا المؤرخ قاسم أن الخيال مهم للباحث والمؤرخ في تصور السياق العام لدراسته وسد الفجوة الناتجة عن عجز المصادر التاريخية التقليدية عن سد وبعث الحياة في الهيكل العظمي للحقائق التاريخية الجافة التي تحملها المصادر. لكن ذلك يبعث على التساؤل؛ على ما يستعين المؤرخ عندما يسد الفجوة التاريخية بالخيال؟ هنا يوضح لنا قاسم أن ذلك يتم بالاستعانة بالنتاج الفني؛ من فنون القول والشكل على السواء، مؤكداً أن ليس هناك ما يعيب البحث التاريخ والباحث في استعانته بالخيال، وإنما العكس هو الصحيح إذ إن الخيال بمعناه الإيجابي وسيلة مهمة للغاية لكي يتمكن المؤرخ من إعادة بناء الماضي. فالوقائع التاريخية ذات بعد واحد مسطح ومجرد، ولكن الخيال يمنحها البعد الثاني، والبعد الثالث، فيجعلها تبدو حية دون انتقاص من قدر الحقيقة التاريخية التي تحملها. لهذا لا يفصل قاسم بين التاريخ والأسطورة، بل هما قطاعان متصلان من قطاعات الدراسات الإنسانية، فقد كانت الأساطير والحكايات الخيالية القراءة الأولى لتاريخ البشرية في زمن لم يكن الإنسان فيه قد أمسك بزمام السطيرة على الطبيعة من ناحية، ولم تكن لديه التسجيلات التاريخية التي تمكنه من معرفة الماضي من ناحة أخرى. فقاسم يرى الأساطير باعتبارها تراكمات من الفكر والخيال البشري حول بذرة من الحقيقة التاريخية، إضافة لبقاء التاريخ موجوداً في الأسطورة كما بقيت الأسطورة كامنة في بنية السرد التاريخي. هذه العلاقة التي يصفها قاسم بـ العلاقة العضوية تمتد لتشمل سائر ضروب الإبداع الخيالي البشري الذي نسميه إجمالاً الخيال الشعبي. ويذهب قاسم إلى أن طموحات الباحثين والمؤرخين التي سعت دائماً للبحث عن الحقيقة الخالصة، وتخليصها من الخيال، لا يمكن لها أن تتجاهل الخيال والغموض والإثارة التي تتسم بها الأسطورة وبنات جنسها من الإبداع الشعبي الجماعي، فهذه الإبداعات لا تزال تحمل ما يلبي حاجة إنسانية ثقافية، اجتماعية، للهروب من الواقع بكل أعبائه النفسية، بما قد يحمله من حقائق قاسية ومريرة يرى الخيال الجمعي، اللاواعي، ضرورة تخفيف وطأته بالخيال. لهذا يؤكد بأنهُ لا يمكن للجماعة البشرية في أي زمان ومكان أن تعيش بلا خيال تبرر به قبولها لحياتها تماماً مثلما لا يمكن للفرد أن يستغني عن الخيال وهو يمارس حياته الفردية والاجتماعية. بعد ذلك يتطرق الحوار لـ الأسطورة التاريخية التي يقول قاسم بأن التاريخ نواتها، والخيال غلافها، وهي مرحلة جديدة في تاريخ الخيال الإنساني، تنشأ ببذرة تاريخية حقيقية يمكن أن تكون من أحداث التاريخ الكبيرة في الماضي، وتتراكم حولها عناصر الخيال، أو شخصية تاريخية مشهورة، أو قصة إنسانية؛ قبيلة أو شعب، أو أمة بأسرها. ومعنى هذا كما يوضح قاسم، أن الخيال والفعل التاريخي موجودان في تلاحم عضوي داخل كل من البناء الخيالي في الأسطورة والملحمة والسيرة الشعبية من ناحية والكتابات التاريخية والسرد التاريخي من ناحية أخرى. وبناء على ذلك فإن البحث التاريخي الحديث لا يمكن أن يستغني عن الإبداعات الشعبية التي يمثل الخيال قوامها، ففي كل أنواع الأدب الشعبي نجد الخيال الذي يعبر عن الرؤية الشعبية للأحداث والشخصيات والمواقف من ناحية، والتعبير عن الصورة الوجدانية التعويضية لدى الجماعة الإنسانية التي أنتجت هذا التراث من ناحية أخرى. ويواصل قاسم مؤكداً مسؤوليته العلمية على أن الإبداع الخيالي مصدر مهم من مصادر المعرفة التاريخية: فهو يكشف لنا عن الجوانب التي لا تتحدث عنها المصادر التاريخية التقليدية. ويتطرق قاسم بعد ذلك للأساطير الزائفة التي توظف للاستفادة السياسية أو ما شابه، كتلك الأسطورة التي استخدمتها الصهيونية لحتلال فلسطين، وأسطورة تفوق الجنس الأبيض التي كانت مبرراً للهيمنة الاستعمارية الأوربية، وغيرها، ليبين أن هذه الأساطير الزائفة تسقط، فيما يبقى الخيال الشعبي التلقائي الذي ينتج الأساطير وسائر بنات جنسها يبقى ويستمر؛ لأنه حقيقي من ناحية، ولأنه مفيد وضروري للجماعة الإنساينة من ناحية أخرى.

مشاركة :