الحد الفاصل بين الحرية والإساءة

  • 9/28/2020
  • 20:27
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

أعادت حادثة الطعن التي وقعت أمام مجلة شارل إيبدو في العاصمة الفرنسية باريس خلال الأيام الماضية الجدل من جديد حول مفاهيم عديدة مثل حرية التعبير التي يستغلها البعض للسخرية من المقدسات والرموز الدينية، وما إذا كان من حق الدول إصدار قوانين تمنع الاستهزاء بالأديان والثوابت، أم أن ذلك يتعارض مع قيم الديمقراطية الحديثة.بدءاً أقول إنه رغم أن المشاعر الدينية ربما تكون الدافع الرئيسي لمن أقدموا على ارتكاب تلك الجريمة، وشعورهم بالغضب من إقدام المجلة على الإساءة لمعتقداتهم، إلا أن ذلك لا يمثل مسوغاً قانونياً ولا أخلاقياً لهم، ولا يمكن أن يكون عذراً يبرر فعلتهم، لسبب جوهري ورئيسي هو أنهم يعيدون عجلة الزمن مئات السنين إلى الوراء ويرجعونها إلى عصور شريعة الغاب، عندما كان كل شخص يأخذ حقه بيده، ويلغي الدور الذي ينبغي أن يقوم به القضاء في إرجاع الحقوق وردِّ المظالم، وهو ما حرص الإسلام على منعه ونص على مسؤولية الحاكم وحده عن تنفيذ القوانين.أما مجلة شارلي إيبدو التي اعتادت استفزاز مشاعر المسلمين، فهي من المجلات الهزلية الصفراء قليلة الانتشار التي يبدو أن ملاكها يبحثون عن الشهرة بأي ثمن، فقد سبق لها القيام في مرات كثيرة بنشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للمسلمين، تزعم أنها للنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، وقد بدأت رحلتها المسيئة منذ العام 2006 مما تسبب في موجة احتجاجات واسعة شملت معظم الدول الإسلامية، وأعادت في 2011 نشر الرسوم الكاريكاتورية وتعرضت بسبب ذلك إلى هجوم أسفر عن مصرع 11 شخصاً بينهم 8 من العاملين فيها وإصابة 12 آخرين بجروح، وكررت ذات الفعل عام 2016 قبل أن تعود خلال الأيام الماضية وتنشر رسومها من جديد.مما سبق تبرز أسئلة كثيرة تتعلق بالسر وراء إصرار المجلة المذكورة على استفزاز مشاعر المسلمين في كافة أنحاء العالم، فالعالم أجمع يدرك مقدار الحب الذي يحمله أكثر من مليار ونصف المليار مسلم لنبيهم الكريم، والمكانة التي يحتلها في نفوسهم، والرفض الواسع لأي محاولة للمساس به. كذلك فإن التشدق بذريعة حرية التعبير هو تبرير مرفوض لأن حرية الإنسان تنتهي عند النقطة التي تبدأ عندها حرية الآخرين، لذلك لا ينبغي السماح لأي شخص بالإساءة للآخرين، أو تهديد السلم الاجتماعي والأمن العام بحجة حرية التعبير.المؤسف في الأمر أن تلك التصرفات المرفوضة تأتي في الوقت الذي تحاول فيه بعض الدول وعلى رأسها المملكة إيجاد قواسم مشتركة لأتباع الأديان السماوية وصياغة ميثاق شرف إعلامي تلتزم به جميع الأطراف، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف تم إنشاء مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الأديان الذي رصدت له ميزانية ضخمة تبلغ عشرات الملايين من الدولارات سنوياً. وقد قام المركز منذ إنشائه بالعديد من الخطوات الإيجابية وحقق نتائج ملموسة.أما السبيل الأمثل للتصدي لتلك التصرفات المرفوضة والإساءات المتكررة فلا أعتقد أنه يكمن في تسيير المظاهرات والمسيرات أو الاعتداء على الممتلكات العامة، لأن تلك التصرفات لا تؤدي إلا لترسيخ الصورة السالبة التي يحاول بعض الكارهين للإسلام الترويج لها بادعاء أنه دين يدعو للعنف والتطرف. ولا يعني ذلك الوقوف موقف المتفرج على تلك الإساءات وعدم الاهتمام بها، لكن يمكن تحريك دعاوى قضائية ضد الجهات المسيئة وإلزامها بالتوقف عن إساءاتها. وأن تهتم وسائل الإعلام في الدول العربية والإسلامية بمواصلة تقديم الصورة الحقيقية عن الإسلام، وتكثيف البرامج التي تخاطب الغربيين بلغاتهم.ومن الأهمية أن تتفق الدول العربية والإسلامية على حث الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع الدولي لإصدار تشريعات ملزمة تمنع التطاول على المقدسات والرموز الدينية، لأن ذلك يمنح التنظيمات المتطرفة ذريعة البقاء ويمدها بأسباب الاستمرار لأنه يساعدها في مواصلة تجنيد البسطاء من الشباب المتحمس، فتستغلهم بدعوى الدفاع عن الإسلام، ومواصلة ادعاءاتها بالدفاع عن الإسلام والتصدي للحملات الموجهة ضده. وقد كسبت التنظيمات الإرهابية كثيراً من تصرفات أتباع اليمين المتطرف في الغرب، وانتهزتها لحشد الأتباع.هذه هي الطريقة التي يجب أن نتبعها للدفاع عن ديننا والذود عن حياضه والدفاع عن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، فنحن نتشرف بأننا أتباع دين يأمرنا بالحسنى حتى مع المسيء، ويرفض التطرف والعنف حتى وإن كان لتحقيق العدل وإقرار الحق، امتثالاً لقوله تعالى «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم كذلك زيَّنا لكل أمة عملهم»، ولنا في سيرة نبينا الكريم أبلغ الأثر في الصبر على الأذى، حيث كان يصفح عن من يسيء إليه ويتجاوز عن الجاهلين، مكتفياً بوعد الله سبحانه وتعالى له في قوله «إنا كفيناك المستهزئين».

مشاركة :