بعد أن انفض المجتمعون في أول مؤتمر اقتصادي عقب الثورة في السودان تشكلت لدى المتابعين فكرة تتمحور حول صعوبة تنفيذ أيّ من مخرجاته لأن أهدافه تبدو سياسية أكثر منها اقتصادية. فبينما يُفترض أن تتجاوز البلاد مرحلة المؤتمرات التقليدية في ظل تفاقم الأزمات بشكل أكبر لبدء ترسيخ عملية توافق على الملفات الحارقة، ظهرت في طيات المؤتمر خلافات عميقة بدت واضحة حين قام كل طرف بإلقاء الكرة في ملعب الآخر لتسجيل النقاط دون أن يكون في أذهانهم تحقيق المصلحة العليا للدولة، ومن ثم السير في طريق تحقيق السلام المنشود. الخرطوم- عاشت العاصمة السودانية الخرطوم على مدار ثلاثة أيام فعاليات أول مؤتمر اقتصادي بعد أن أطاح الجيش بنظام عمر حسن البشير قبل عام ونصف العام، لكنه انتهى دون توافق على رؤية واضحة للتعامل مع الأزمات المتفاقمة التي تمر بها البلاد، ومحاولة تخفيف وطأتها السياسية. ونشبت خلافات عديدة خلال أيام المؤتمر بين الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير بشأن طريقة العلاج المناسبة، وتحولت بعض الجلسات إلى منصة للشعارات السياسية، في الوقت الذي تعتبر فيه الدولة في أمسّ الحاجة إلى حلول واقعية وفعلية على الأرض تجعلها ترسم ملامح أكثر تفاؤلا للنهوض من ركام المشكلات المزمنة. وبينما تمسكت الحكومة بسياسات صندوق النقد الدولي، وتقوم على رفع الدعم عن المواد البترولية والسلع الأساسية مقابل الحصول على حوافز مالية تنشط الاقتصاد، رأت قوى الحرية والتغيير أن تلك السياسات تشكل أسلوبا عقابيا للمواطنين الذين يتحملون الأوضاع الصعبة، وطالبت بضرورة الاعتماد على الموارد الذاتية للنهوض بالبلاد بعيدا عما أسمته بـ”بيع الإرادة الوطنية”. لم يستطع المشاركون في المؤتمر تنحية التباينات السياسية للوصول إلى توافق ينتشل البلاد من عثراتها الاقتصادية، وحمل المؤتمر في تفاصيله مزايدات بين الأطراف المسؤولة عن إدارة المرحلة الانتقالية، وحاولت الحكومة نفض يدها من أي فشل مستقبلي، حال لم تطبق التوجهات التي تريد تنفيذها على الأرض. وسعت قوى الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة، إلى ترميم شعبيتها برفضها اتخاذ إجراءات اقتصادية قاسية قد تتسبب في ارتفاع منسوب الغضب ضدها في الشارع السوداني، وقد وصل الأمر إلى سحب توصياتها بشأن خفض الدعم عن المواد البترولية، ووصفتها بأنها “مزيفة ومضروبة”. وأثارت وقائع المؤتمر الاقتصادي الكثير من التساؤلات حول مسار الحل السليم في البلاد، ورغم أن هناك توافقا على أن تحسن الأوضاع الاقتصادية يقود بالتبعية إلى الاستقرار السياسي، غير أن السودان يبدو كمن يمضي في الطريق العكسي. وتطغى حالة التسييس، التي تصبغ أهله ونخبته على الاقتصاد المترنح، والذي يأتي في المرتبة التالية في سياسات التفكير السوداني، وهو ما يعني أن البلاد سوف تعاني من هذه الناحية لفترات طويلة، ويمثل ذلك تهديدا مباشرا على تماسك المرحلة الانتقالية. ويرى مراقبون أن أهداف رئيس الحكومة عبدالله حمدوك من عقد المؤتمر لم تتحقق، لأنه استهدف الحصول على تأييد سياسي وشعبي قبل التوقيع على اتفاق مع صندوق النقد، بعدما أقر الأخير برنامج السودان خلال الفترة المقبلة. كما أن هذا المؤتمر، الذي انبثقت عنه نحو 160 توصية من كافة الورش التي عقدت طيلة أيام هذا الحدث، وضع حمدوك في مواجهة مباشرة مع المواطنين الذين يرون أن إجراءاته يصعب تحملها في ظل الأوضاع الراهنة، بما يسهم في تغذية الشعور لديهم بأن هناك أجندات خارجية تسعى الحكومة لتنفيذها دون النظر إلى متاعبهم. يفرز توجيه دفة الاهتمامات نحو المجالات الاقتصادية خلافات جديدة بين الحكومة والمكون العسكري داخل مجلس السيادة، في ظل رغبة الأولى التخلص من سيطرة شركات القوات المسلحة ولم يستبعد المراقبون أن يكون توقيت عقد المؤتمر مرتبطا بالمفاوضات مع صندوق النقد، والذي صادق الأسبوع الماضي على برنامج إصلاح اقتصادي للسودان، في محاولة لإنقاذ البلاد من أزمة تعصف بمؤشراته الكلية والعملة المحلية. ومن المقرر أن يدعم البرنامج الإصلاحات الحكومية المحلية لمدة 12 شهرا، بهدف استقرار الاقتصاد وتحسين القدرة التنافسية وتعزيز الحوكمة، فضلا عن إصلاحات السياسات النقدية والأسعار، والتي أثرت بشكل بالغ على الشريحة الأكبر من السودانيين، والتي تتمثل في الفقراء. واعتبر الباحث السياسي مرتضى الغالي أن المؤتمر الاقتصادي أحد أسباب خلخلة الحاضنة السياسية للحكومة، بعدما نشبت خلافات عميقة بين مكونات تحالف الحرية والتغيير حول توقيت انعقاده وأجندته والتوصيات النهائية بشأنه، ويعد انعقاده استجابة لضغوط الشارع التي تتزايد، ويسيطر عليها الشعور بعدم القناعة بالثورة وإنجازاتها. وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الخلافات السياسية طغت على المحفل الاقتصادي العلمي الأول منذ الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير، ما يبرهن على أن البرامج والاستراتيجيات التي ناقشها سوف تجد صعوبة في التطبيق على أرض الواقع، والكثير من الحلول التي طرحها لم تكن غائبة عن تصورات الحكومة وتحاول تنفيذها بالفعل. تعول الحكومة الانتقالية، التي استنزفت طاقاتها لصالح تمرير اتفاق السلام، على أن يمنحها إنجاز الجزء الأكبر من الاتفاق قدرا من الهدوء يمكنها من معالجة القضايا الاقتصادية بصيغة توافقية، ودعم دولي طالما تلقت وعودا في استعادته مجددا عقب السلام. وأشار الباحث السياسي الغالي إلى أن تنحية الصراعات السياسية لصالح الاهتمام بالاقتصاد أمر مستحيل في بلد مثل السودان يموج بالتوترات، متوقعا أن تشهد خلافات طاحنة حول طريقة استكمال هياكل الفترة الانتقالية، وكيفية دمج الحركات المسلحة في السلطة. ويؤكد العديد من المتابعين أن ارتباط الاقتصاد في السودان بهيئات سياسية وعسكرية تهيمن على إدارة الحكم في الفترة المقبلة يجعل التوافق أمرا صعبا للغاية، وبالتالي فإن أي خلافات بين هذين المكونين قد تؤجل إتمام مسار السلام المنشود. ويفرز توجيه دفة الاهتمامات نحو المجالات الاقتصادية خلافات جديدة بين الحكومة والمكون العسكري داخل مجلس السيادة، في ظل رغبة الأولى التخلص من سيطرة شركات القوات المسلحة، والجهات الاقتصادية التابعة لجهاز الدعم السريع. وتشير تقديرات حكومية إلى أن القوات المسلحة تسيطر على 200 شركة تعمل في مجالات حيوية، خاصة مجال الذهب، وهي تشكل ما نسبته 80 في المئة من الإيرادات العامة خارج ولاية وزارة المالية، وتسعى الحكومة وقوى الحرية والتغيير إلى إخضاع تلك الشركات لمنظومة الضرائب، التي تسعى لتفعيلها وإيجاد حلول سريعة للتعامل مع الأزمات المالية. وقدمت قوى الحرية والتغيير ورقة بحثية خلال جلسة “تقليص الفجوة بين الإيرادات والنفقات العامة”، أكدت فيها ضرورة السيطرة على موارد النقد الأجنبي، بالأخص الذهب وتوقعت أن يكون العائد الشهري له حوالي 400 مليون دولار شهريا، وطالبت بأن تتولى وزارة الطاقة والتعدين مهمة التعاقد والرقابة والإشراف الفني على الذهب. وأوضحت الكاتبة والمحللة السياسية إيمان عثمان أن الاقتصاد السوداني سوف يكون على رأس أولويات الحكومة بعد تخطي عقبة تحقيق السلام، وأدركت أن انفجار الشارع أمر غير مستبعد، حال لم تصل إلى حلول جوهرية للأزمات الراهنة. نشبت خلافات عديدة خلال أيام المؤتمر بين الحكومة الانتقالية وقوى الحرية والتغيير بشأن طريقة العلاج المناسبة، وتحولت بعض الجلسات إلى منصة للشعارات السياسية ولفتت عثمان في تصريح لـ”العرب” إلى أن الخلافات بين المكونين المدني والعسكري في طريقة التعامل مع المشكلات تؤخر الحلول الآنية وتفسح المجال أمام التوافق حول الحلول طويلة المدى. وحذرت من تردي الأوضاع الاقتصادية، ما يشكل هاجسا لجميع أطراف السلطة الانتقالية التي تخشى خسارة المكتسبات التي حصلت عليها عقب الإطاحة بالبشير، وهي تدرك أن تأزم الاقتصاد ثغرة خطيرة ينفذ من خلالها فلول النظام البائد وتسعى لحلها سريعا، وجاء المؤتمر كمحاولة جادة للحل، غير أنه أثبت أن الحكومة بحاجة إلى مزيد من الوقت كي تحصد الثمار.
مشاركة :