ميشيل سير: التفلسف مفتاح يصلح لكل الأقفال!

  • 10/1/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير (1930-2019) إنه، في منهجه، وطريقة تفكيره، سليل تقليد فلسفي عرفته اللغة الفرنسية ينحدر عن مونتيني. فديدرو على سبيل المثال: عندما يود الحديث عن الصدفة والضرورة، فهو لا يحلل مفهومات، وإنما يبرز شخصيتين، جاك القدري وسيده، إحدى هاتين الشخصيتين تدافع عن أطروحة القضاء والقدر، والأخرى عن الحرية.. وسير ينتمي إلى هذا التقليد، حيث لا يتباهى المرء بقراءاته. فالمعرفة موجودة، ولا جدوى من الصراخ بالاقتباسات والهوامش والفهارس الضخمة، بحسب ما بسَط جوانب من ذلك في الحوار التالي: * لقد بدأت بدراسات علمية. كيف ولماذا جئت إلى الفلسفة؟ ** كنت بلغت سن 14 سنة 1945، عندما انتهت الحرب. كان لهيروشيما وناغازاكي تأثير كبير عليَّ. فجأة، اقترف العلم الذي كان محل تقديس، العلم الذي جلب الراحة والأدوية، وكلَّ ما كان يحدد حياة سعيدة، هذا العلم اقترف جريمة شنعاء: القنبلة الذرية. في البداية ساد نوع من العمى العام. ولكي أسوق لك مثالاً على ذلك، كنت طالباً في جامعة السوربون عند غاستون باشلار، الذي كتب عشرين سنة بعد هيروشيما في مدح الفيزياء المعاصرة! الجيل الذي أتى فيما بعد، أي جيلي أنا، عاش أزمة ضمير: جزء كبير من الباحثين ابتعدوا عن الفيزياء، كي يتوجهوا نحو الكيمياء الحيوية التي عرفت تقدماً كبيراً. فيما يخصني، تركت الأكاديمية البحرية وتوجهت نحو المدرسة العليا، كي أدرس فلسفة العلوم. * لديك طريقة في التفلسف يصعب حصرها في نموذج بعينه. أنت تظهر بعض الازدراء إزاء المنهج، ولا تذكر إلا مراجع قليلة، كما أنك تستخدم الإيحاء الرمزي... في النهاية، ما الذي يميزك عن الكاتب؟ ** أنا لست بهذا التفرّد. بل بالعكس، أنا سليل تقليد فلسفي عرفته اللغة الفرنسية وهو ينحدر عن مونتيني. خذ ديدرو على سبيل المثال: عندما يود الحديث عن الصدفة والضرورة، فهو لا يحلل مفهومات، وإنما يبرز شخصيتين، جاك القدري وسيده، إحدى هاتين الشخصيتين تدافع عن أطروحة القدر والقضاء، والأخرى عن الحرية. وهو يكتب إحدى أجمل الروايات التي كُتبت على الإطلاق، وهي في الوقت ذاته كتاب شديد العمق حول المصادفة والضرورة. الحكاية، على عكس العلم، تتجنب تقطيع الواقع أجزاء متباينة. أنا أنتمي إلى هذا التقليد، حيث لا يتباهى المرء بقراءاته. المعرفة موجودة، ولا جدوى من الصراخ بالاقتباسات والهوامش والفهارس الضخمة. اليوم، يكون عليك بالضرورة أن تقتبس من سبينوزا إذا ما تحدثت عن الفرح. كلا! أنا عندما أتحدث عن الفرح، أتحدث عن الفرح وكفى! وكون سبينوزا قد تحدث عنه، هذا أمر جيد، وأنا قرأته. لكن، لست في حاجة إلى التباهي بذلك. خصوصاً أننا نملك اليوم موسوعة ويكيبيديا تضم جميع التعليقات النقدية. ما هي إذاً المهارة النوعية للفيلسوف؟ هناك رواية لجول فيرن، أحد شخوصها خادم يقوم بجولة حول العالم، يُدعى «باسْ بارتو» Passepartout، ويعني هذا الاسم مفتاحاً يصلح لكل الأقفال. تلك هي حال الفلسفة، إنها تصلح لكل الأقفال، إنها مركبة تصلح لكل تربة. وهي تقوم بجولة حول العالم، حول العلوم، وحول البشر. تلك فرادتها. وتلك أيضاً قوتها في عالم اليوم، حيث تتشابك جميع القضايا. خذ قضية المناخ على سبيل المثال: فهي تستدعي في الوقت ذاته الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والكيمياء الحيوية والكوسمولوجيا والاقتصاد... إذا حاولت أن تجد حلاً لمسألة بيئية بنهج طريقة تحليلية، فاعلم أنك ستفوِّت عليك الأمر. فعلى سبيل المثال، من البلاهة وضع خطة لإنعاش الضفادع إذا ما كان المناخ ذاته، الذي سينزعج هو بدوره، سيعمل على القضاء على جميع الضفادع التي تتولد عن خطتك! واحدة من أكبر المعضلات اليوم، هي أن الجامعة قد صنعت مجموعتين من «الأغبياء»: من يدرسون الآداب من جهة، وهم حاصلون على معارف، لكنهم «جهلة»، ومن جهة أخرى علماء، لكنهم غير متعلمين! هنا بالضبط يكون على الفيلسوف أن يقوم بدور. مهمته هي أن يعيد رتق ما تمّ تمزيقه بشكل مصطنع. * كتابك الأخير يبدو كأنه تفكير في ما يعنيه التفكير. يمكن أن نوجز تحديدك إياه في هذه المعادلة: «التفكير هو الإبداع». فهل يصح الجزم بأنه لا تفكير إلا التفكير المبدع؟ ** نعم، الأمر على هذا النحو بالضبط. صحيح أنه من المهم بالنسبة للتكوين أن نتعلم ونتذكر. ولكن، كلما أطلت في التكوين، بقيت في إطار المعلومات ولا تحيد عنه. أما التفكير فيتطلب، على العكس من ذلك، التحرر منه. كنت تحدثني منذ قليل عن المنهج. أنت تعلم أن اللفظ «منهج» الفرنسي مشتق من اليونانية «ميتودوس» التي تعني «الطريق». والحال أنك إن تابعت طريقك نحو لاندورنو، فإنك ستصل إلى لاندورنو. وعلى النحو نفسه، فإن الطريق السيار أ6 يؤدي دوماً إلى طريق باريس الدائري. الأمر نفسه بالنسبة لوصفة الطبخ، إذا تابعت بعناية وصفة الفطيرة تاتان، فإنك ستصنع فطيرة تاتان. ولكن من حقنا أن نتوقف لحظة ونتساءل: كيف عملت الأختان تاتان كي تبدعا هذه الفطيرة العجيبة؟ إنهما ارتكبتا زلة: أوقعتا الفطيرة التي سقطت مقلوبة. أعتقد أن التفكير الحق يتم على هذا النحو: إنه يتم عن طريق الحيَد عن الطريق وبفعل الحظ والصدفة. فنحن نجد ما لم نكن نبحث عنه. التقدم يتحقق بفعل الخطأ. * هل الخطأ من صميم الفكر؟ ** إنه من صميم الإنسان. عندما يقول المثل اللاتيني: «الخطأ إنساني» errare humanum est فلا يعني ذلك أنه ليس عيباً أن يخطئ الإنسان، وإنما أن الخطأ هو ما يحدد الإنساني، من إنسانية الإنسان أن يخطئ، وهذا يعني أن الخطأ خاصية الإنسان. إنه ما يميزه. الأبقار لا تخطئ أبداً. والعناكب تنسج شبكاتها دوماً على أكمل وجه. أما الإنسان، فهو يخطئ على العكس من ذلك. وهو يبدع لأنه يخطئ. ما هو الإنسان؟ هو من يرتكب أخطاء. * أنتم تسعون في النهاية لإيجاد جواب عن سؤال قديم في الفلسفة: ما هو الإنسان؟ ** نعم، ولكن قبل القيام بأنثروبولوجيا وعلم بالإنسان، أسعى إلى كتابة كوسمولوجيا وعلم بالكون. إذ من يبدع ويخترع؟. عندما حدث البيغ بانغ والانفجار العظيم، انتشرت عبر الكون وفرة من الاختراعات والمستجدات. تكاثرت كواكب متنوعة. أحد تلك الكواكب، وهو الأرض، عندما تبرَّد كان محل حراك خارق للعادة: إنها الحياة. تضاعف الجزيء الأول فأخذت تظهر عوالم متعددة الخلايا. وظهرت أنواع جديدة. لا شيء يربط صدفة من الأصداف بسمكة وشمبانزي. كيف نفسر كل هذا؟ الأمر في غاية البساطة: اختلاف الحمض النووي. أجرت الحوار - هيلوويز ليريتي.. العنوان الأصلي للحوار: «التفلسف هو الإبداع»، مجلة العلوم الإنسانية، عدد، 25 يوليو- أغسطس 2020

مشاركة :