نادية هناوي: الجوائز صارت وبالا على الرواية العربية | محمد الحمامصي | صحيفة العرب

  • 10/1/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من الحيف أن نتهم كل النقاد العرب بأنهم متخاذلون تجاه المشهد الأدبي والثقافي العربي، حيث أن الكثير من النقاد حاولوا مواكبة النظريات الغربية والتأسيس لنقد عربي منفتح على آخر الاكتشافات والأفكار والنظريات، ولكن يبقى الطريق صعبا خاصة مع التطور الكمي الكبير للإصدارات الأدبية. “العرب” حاورت الناقدة العراقية نادية هناوي حول واقع النقد والأدب العربيين. تحتل الناقدة العراقية نادية هناوي مكانة متميزة في المشهد النقدي العراقي والعربي، حيث تملك مشروعا نقديا واضحا يرتكز على النظريات النقدية وسرديات ما بعد الحداثة وعلم الجمال، ويوازن بين الدرس الأكاديمي تنظيرا وتطبيقا والمشاركة والمتابعة لنتاجات الإبداع الشعري والسردي رواية وقصة قصيرة، بالإضافة إلى الحضور الواسع في المؤتمرات العلمية داخل العراق وخارجه. قدمت أستاذة النقد الأدبي ونظريات السرد وعلم الجمال ستة عشر كتابا من بينها “نحو نظرية عابرة للأجناس”، و”السرد القابض على التاريخ”، “القارئ في الخطاب النقدي العربي المعاصر نجيب محفوظ أنموذجا”، و”مقاربات في تجنيس الشعر ونقد التفاعلية” و”تمظهرات النقد الثقافي وتمفصلاته.. قراءات تطبيقية”، و”ما بعد النقد فضاءات المقاربة ومديات التطبيق”. حال النقد انطلاقا من المرتكزات الأساسية التي تشكلت في ضوئها رؤية هناوي النقدية النظرية والتطبيقية، تقول “أهم المرتكزات هو الاستجلاء الفكري نظرا وتأملا إلى جانب الاستغراق في النص الأدبي سطحا وعمقا. وبالشكل الذي يمكِّن من استغوار البواطن ويسهِّل معرفة المخفيات محايثة وحفرا مع المواكبة المستمرة لكل ما هو مستجد في عالم النقد من نظريات ومنهجيات واصطلاحات وفرضيات، لا بقصد تجريبها فقط وإنما اختبارها أيضا”. وترى هناوي أن تجريب النظريات إما أن يثبت نجاعتها في بلورة تصور نقدي يلائم تجاربنا الإبداعية وتوجهاتنا الثقافية فنأخذ بها ونتبناها، وإما يؤكد عجزها وأنها لا تنفعنا في أداء مهامنا وسعينا إلى اجتراح ما نراه بديلا عنها ويلائم نتاجاتنا، ولعلنا نقدم للنقد العالمي إضافة نوعية على مستوى النظرية والتفكير المنهجي أو على مستوى الاصطلاح والمفاهمة أو على مستوى العمل والممارسة. وتضيف الناقدة “قد يرى بعضهم استحالة هذا الترجي أو في الأقل أهميته لاسيما أولئك الذين وقعوا صرعى الفهم الكولونيالي فغلبت التبعية على فهمهم النقدي، وكأنّ النقد وُلد ليكون غربيا حتى أنهم يرون في الاجترار والتكرار درءا أكاديميا وجُنّة معرفية من الخطأ والخطل، وفاتهم أن العلم لا يعرف العرقية وليست له خارطة جغرافية”. وتتابع “انطلاقا من هذا التصور وضعت ما قدمه الغرب حول قضية التجنيس الأدبي على المحك سعيا إلى الإضافة والاجتراح حتى تمخضت عن ذلك نظرية ‘العبور الأجناسي‘ كاستكمال فكري وتطوير مفاهيمي لما كانت النقدية الغربية قد قدمته في هذا المجال، فضلا عن عشرات المفاهيم والمقولات المبتكرة التي ضمتها أبحاثي ودراساتي، وقد عرّفت بها نظريا وعملت على تطبيقها إجرائيا مشتغلة على مختلف النصوص الشعرية والسردية عراقية وعربية وأجنبية”. ومن تلك المفاهيم مفهوم الجسدنة الذي طرحته في كتابها “الجسدنة بين المحو والخط” 2016 ورواية التاريخ في كتابها “السرد القابض على التاريخ”، والعبور الأجناسي في كتابها “نحو نظرية عابرة للأجناس” 2020 والسيناسردية والسارد العلّام والإرشادي والهلوسة السردية والنسوية العمومية في كتابها “قصة القصة” الذي سيصدر قريبا. وحول ما يراه البعض من أن الحركة النقدية تعاني من مشاكل كثيرة تبدأ من ضعف تأثيرها على أصحاب المشهد الابداعي، وأيضا على جمهور المتلقين، وتنتهي بمشكلتها الداخلية الخاصة باتساع دائرة التنظير والمصطلح وغيره، ترى هناوي أنه “كلما كانت الحركة النقدية محايدة وموضوعية ومخلصة في الافتراض ودقيقة في التحصيل تستطيع أولا أن تحفز المبدعين نحو المزيد من الإبداع تنافسا وحمية، وأن تحقق آخرا الإثارة في نفوس القراء مقربة إليهم الأدب غير منفرة منه”. لكنها تأسف لأن ما يحصل عندنا في بعض الأحيان هو العكس، وكأنّ بين النقد ومتلقيه شبه قطيعة معرفية، إما لرطانة الاصطلاحات والمفاهيم التي يوظفها الناقد وهو نفسه غير متيقن من فاعليتها، واضعا المتلقي عاما كان أو متخصصا أمام دوامة، وإمّا لعشوائية تحليل النتاجات الأدبية وتفسيرها بطريقة تجمع التعميم بالتعتيم، وإما لجاهزية الكليشيهات التي يضعها الناقد تحت يده إلى حين الطلب، فما إن يقرأ نتاجا أدبيا حتى يهمّ إلى كليشيهاته التي اعتادها ويلصقها بذلك النتاج، سواء لاءمت النتاج أو لم تلائمه. وتتابع هناوي “حتى أنك حين تقرأ له نقدا لرواية لا تميزه عن نقد كان قد كتبه عن قصيدة. كما أن ما يكتبه عن تجربة فلان هو نفسه ما كتبه عن تجربة غيره. ولا يهم ممارسي هذا النوع من النقد الكليشيهاتي إن كانت كليشيهاتهم ضيقة لا تسع النص المقروء أو بالعكس فضفاضة عليه وهو ضائع فيها، بل المهم في هذه الجاهزية هو ما يحققه صاحبها من ضرب عصفورين بحجر واحد، فلا هو يتعب نفسه في الاستكناه السياقي أو النصي أو ما بعد النصي، وعندها سيكشف عن قدراته المتواضعة وربما الضعيفة. ولا هو يظل بعيدا عن النتاجات الأدبية وبلا كتابة نقدية. وبذلك يمسك العصا من الوسط فيحوز على الوصف بأنه ناقد وفي الآن نفسه يتلقى الرضا من الذين تناول نتاجاتهم أو من القراء الذين اعتادوا قراءة نقوده”. وتضيف “هذا برأيي هو الخذلان النقدي الذي يحصل حين يعجز الناقد عن أداء وظيفته المفترض به أداؤها، عاجزا عن تحقيق الفاعلية المرجوة على المستويين التثقيفي والمعرفي. وعلى الرغم من ذلك فإن من غير الضنين في بعض الأحيان على المتابع للمشهد النقدي العربي أن يجد الناقد الفاعل والنبيه الذي يعرف كيف يفكر نقديا مطوعا أدواته تمفصلا وتوصلا ممارسا بجدة وأصالة الرسوخ في التعاطي مع النقد الأدبي. ولا ينبغي أن يغيب عن بال أي ناقد أن النص مادة الناقد وقبل ذلك هو نتاج الأديب، وهو عند الأول وسيلة وعند الثاني غاية. وإذا قلنا وسيلة فذلك يعني أنه مادة يتم التعامل معها بحرفية وامتهان بهدف إعادة صياغتها في شكل جديد هو نص نقدي. وإذا قلنا إن النص هدف فذلك لإنه نتاج نهائي منجز له سماته الأدبية التي منها جودة شكله المتقن وجمالية بنائه وإحكام صناعته فكرا ونباهة”. الرواية العربية تؤكد هناوي أن الحياة الثقافية في العراق شهدت نهوضا واضحا، ومن دلائل هذا النهوض كثرة النتاجات الأدبية ولاسيما الروائية التي اتسع نطاق كتابتها بين الرجال والنساء، بيد أن الملاحظ على هذا الاتساع أنه كمي اتباعي لا نوعي ابتكاري، فبين المئات من التجارب الروائية لا نجد سوى القليل من التجارب المهمة التي تلفت الانتباه وتكون جديرة بالرصد والتشخيص. وتشير الناقدة إلى أن “المطبوعات التي تصنف ‘رواية‘ كثيرة على المستوى العربي، وهي تغزو سوق الكتب الأدبية العربية كل يوم لكن معظمها تخفق في إثبات مستوى فني تتميز به على ما سبقها أو ما تضاهيه. وأغلبها تتناول موضوعات حياتية مباشرة من دون معالجات فنية، وبعض الذين يكتبون الرواية طارئون على هذا الفن، هدفهم تزجية الوقت، يسيؤون إلى تاريخ الرواية الذي ما شهد انحسارا نوعيا مثل الذي يشهده في وقتنا الراهن. وهذا ما لا يحصل مع القصة القصيرة ومن هنا انحسرت كتابتها في الآونة الأخيرة، والسبب أن هذا الجنس السردي عصي على الطارئين. ومن يغامر بالكتابة فيه من دون موهبة سينكشف ضعفه وتنضح حقيقة قدراته”. وحول الأسباب الكامنة وراء سطوة المشهد الروائي وتأثير ذلك على الشعر مع ملاحظة أن الكثير من الشعراء تحولوا إلى كتابة الرواية، تقول هناوي “أهم الأسباب وأكثرها خطرا هي الجوائز الدسمة التي صارت وبالا على الرواية العربية فأودت بالإنجازات التي كانت قد حققتها الأجيال السابقة إلى الحضيض مسببة تراجعا واضحا في الكتابة الروائية التي تأتي مفصّلة تفصيلا على مقاسات تلك الجوائز ومعاييرها التي من بينها معايير غير فنية: أيديولوجية أو سياسية”. الرواية ليست موضة نتباهى بها، ولا هي وسيلة لنيل الشهرة وتحقيق الربح، وإنما هي تمرد ومغامرة وتلفت إلى أنه “صار كل من شاء ورغب يكتب الرواية، بدءا من طلاب الجامعات وانتهاء بتحول بعض الأدباء عن صفاتهم الأدبية التي عرفوا بها كشعراء أو مسرحيين إلى روائيين، وذلك طمعا بسخاء أعطيات تلك الجوائز. وبفوز ثلة من الكتّاب الجدد وسرعة ما تدفعهم إليه وسائل الإعلام من الشهرة والظهور في الصدارة تمحى المقاييس بينهم وبين كتّاب ثابروا طويلا ليؤسسوا مشاريعهم الروائية ويخطوا تواريخهم في ميدان الإبداع، بيد أنّ الملاحظ على هؤلاء الفائزين الجدد أن مسيرتهم مبتورة إذ قلما يقدمون من بعد النتاج الذي فازوا به نتاجات جديدة تجعلهم في مصاف الكتّاب الكبار”. وتشير هناوي إلى أن “الرواية العربية ومنذ تأسيسها الكلاسيكي التاريخي ومرورا بتبلورها الحداثي واقعيا ورمزيا ووصولا إلى تمكنها الثقافي والميتاتاريخي في مرحلة ما بعد الحداثة، هي منغمسة في الواقع السياسي العربي مجسدة تاريخنا النضالي ضد الاستعمار، مناصرة قضايا التحرر والإصلاح ولاسيما القضية الفلسطينية. وهو ما نجده في كتابات كبار الروائيين العرب كنجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان وجبرا إبراهيم جبرا وإسماعيل فهد إسماعيل ورضوى عاشور وإميل حبيبي وصنع الله إبراهيم وغسان كنفاني وحنة مينا وحيدر حيدر ولطفية الدليمي وغيرهم”. وتؤكد أن “الرواية ليست موضة نتباهى بها، ولا هي وسيلة لنيل الشهرة وتحقيق الربح، وإنما هي تمرد ومغامرة غير محسوبة النتائج، وحساسية أدبية في مناوأة المعتاد بمواقف ثقافية واجتماعية وأيديولوجية يتحمل الروائي مسؤولية التعبير عنها سلبا أو إيجابا. والرواية أيضا تهجد داخلي مضن فيه يصارع الكاتب نفسه محولا وعيه الاجتماعي والسياسي ‘رؤية العالم‘ إلى كيان بنيوي يتشكل جماليا ويتجسد معرفيا. ومن هنا دفع الروائيون الكبار عربا وأجانب أثمان إبداعهم من روحهم ودمهم لأجل أن يقبضوا ثمرات وعيهم مشاريع ترسم لشعوبهم سبل النهوض والخلاص”. وتوضح هناوي أن “ما يهدد الرواية العربية اليوم هو التخاذل والخنوع أمام المغريات المادية التي أولها الجوائز التي ابتلي بها أدبنا العربي الراهن حتى غدا التسابق مطمحا لمن لا يمتلك تجربة وكذلك لمن هو صاحب تجربة احترافية ولن أتحدث عن مستوى بعض محكمي تلك الجوائز ومدى علاقتهم بالإبداع شعرا وسردا وصلتهم بالنقد قربا وبعدا”. وحول أبعاد وتأثيرات الإنترنت ووسائل التواصل والاتصال على الرواية وتفاعل الروائيين معها، تشير هناوي إلى أن “للعالم السبراني منافع كثيرة إذا ما أحسن الروائي الحقيقي الإفادة من إمكانياته الافتراضية الهائلة. أما ذلك الذي يريد من خلال فيسبوك أو تويتر تعميق تجربته، مرة بتلقي المشورة والنصح ومرة أخرى بالتوجيه والتعديل والإضافة والمساعدة التي يحصل عليها من لدن روائيين أنضج منه وأكثر خبرة، فليتأكد أن تجربته مهما لاقت استحسانا نقديا ونجح في توكيد اسمه كروائي مداريا تلك المساعدات ومقنعا الآخرين، أو بالأحرى موهما إياهم أنها من بنات فكره ووعيه هو نفسه، فإنها لن تنفعه ما لم تكن موهبته حقيقية وأصيلة”. وأخيرا وحول خشية السلطة من الرواية والروائيين، تقول “لا أدب روائيا من دون قراء، وكلما كان الأدب قادرا على التعبير عن الإنسان بسيمياء فكرية ومواقف جمالية تجاه العالم كان أكثر تأثيرا في الرأي العام وأكثر خطرا على السلطات الرجعية والدكتاتورية التي تعادي هذا النوع من الأدب، وتظل تتحين الفرص كي توقع بمن تجد في كتاباته الروائية كشفا لزيفها وتشخيصا لعيوبها وتحريضا على الثورة عليها. وما عانت أجيال من الروائيين على مدى تاريخ الرواية العربية من الملاحقات والسجون والنفي، إلا لأن في ما كتبوه من روايات وقصص استنارات فكرية بها يتعمق الوعي وتتيقظ الأذهان على الدجل والجهل والقهر والاستغلال. وهو ما لا تريده أي سلطة غاشمة لا تهمها مصلحة شعوبها”.

مشاركة :