في سياق التغييرات التي أدخلها وباء "كورونا" على عالمنا، شهد الطلب الاستثماري على الذهب زيادة من جانب الدول الغربية وهو ما قوبل بتراجع في طلب التجزئة من أسواق الشرق. وأبدى مستثمرو الغرب اهتماماً ملحوظاً فيما يتعلق بحيازة الذهب، حيث يعتبر بمثابة ملاذ آمن وسط المخاوف المتزايدة حيال التأثير السلبي للوباء على الاقتصاد والأسواق العالمية، لكن في المقابل أحجم مستهلكو المعسكر الشرقي عن الشراء لاعتبارات أخرى. ودفع الطلب من جانب المستثمرين في الدول الغربية سعر الذهب للصعود لمستوى قياسي بلغ 2073 دولاراً للأوقية في أغسطس الماضي مقارنة مع مستوى 1160 دولاراً للأوقية والمسجل في صيف عام 2018، ليكون المعدن النفيس بذلك أحد أفضل الأصول أداءً في تلك الفترة. ومنذ بداية عام 2020 وحتى تسوية تعاملات يوم التاسع والعشرين من سبتمبر، حقق الذهب مكاسب بنحو 24.9% أو حوالي 380 دولاراً مقارنة مع مستوى 1523.10 دولار للأوقية المسجل في نهاية العام الماضي. ويكمن التفسير الأكثر إقناعاً لتحركات أسعار الذهب مؤخراً في تنوع مصادر الطلب، حيث يشهد الطلب العالمي توازناً نسبياً بين إنفاق المستهلكين على الشراء الفعلي للذهب وبين الاستثمارات في المعدن. استثمارات الغرب واكتسب المستثمرون خلال فترة تفشي الوباء قناعة أساسية تتمثل في ضرورة حيازة الذهب ضمن محافظهم الاستثمارية كنوع من التحوط ضد احتمالات هبوط مفاجئ في أسواق الأسهم ومعدلات الفائدة المنخفضة للغاية والانكماش الاقتصادي. كما يلجأ المستثمرون للذهب كنوع من الحماية ضد احتمالات تسارع التضخم مع ضخ حكومات العالم أموالاً في النظام المالي تهدف لدعم الاقتصادات، بحسب ما يقوله الرئيس التنفيذي لمجلس الذهب العالمي "ديفيد تايت". وعلى النقيض لضعف الطلب الاستهلاكي، زاد المستثمرون مشترياتهم من الذهب خلال فترة الوباء، حيث شهد النصف الأول من 2020 شراء صناديق الاستثمار المتداولة الذهب بوتيرة قياسية بلغت 734 طناً بقيمة 39.5 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة 600% مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. وفي دلالة أخرى على التزاحم على الذهب كأداة استثمارية، شهدت صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب تدفقات داخلة بنحو 60 مليار دولار هذا العام، وهو أعلى بنحو 50% عند المقارنة مع المبلغ المستثمر أثناء الأزمة المالية العالمية في عام 2009. وفي واقع الأمر، تُشكل صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب الآن حوالي 35% من الطلب العالمي على الذهب مقارنة مع 8% فقط قبل عقد مضى. ومع ذلك، بدأت هذه التدفقات الداخلة في التباطؤ مؤخراً، حيث سجل أكبر صندوق استثمار متداول في الذهب "إس بي دي آر" تدفقات خارجة في سبتمبر الماضي لأول مرة في 8 أشهر. كما أن البنوك المركزية حول العالم عكست في عام 2010 الاتجاه المتبع لنحو 20 عاماً من كونها صافي بائع للذهب، لتصبح منذ ذلك الحين من المشترين الرئيسيين. ومع ذلك، تباطأ صافي مشتريات البنوك المركزية خلال شهر يوليو لأدنى مستوى منذ ديسمبر الماضي، حيث بلغ 8.8 طن فقط. ويبرهن مثال آخر على التغير الحالي في القوى المحركة للذهب، حيث إن الملياردير الأمريكي "وارن بافيت" الذي طالما وصف الذهب بأنه معدن عديم الفائدة أصبح مؤخراً أحد مستثمريه عبر الاستثمار في أسهم "باريك جولد"، فيما تزاحم جنباً إلى جنب مع "حكيم أوماها" أكبر صندوق للتحوط في العالم "بريدج ووتر أسوشيتس" على الشراء. محرك الاستهلاك لكن في المقابل، كان الطلب الاستهلاكي على المعدن الأصفر ضعيفاً في أكبر سوقين استهلاكيين، وهما الهند والصين واللذين يُشكلان معاً أكثر من نصف مشتريات الذهب العالمية. وانخفض الطلب الاستهلاكي على الذهب في الهند بنحو 56% خلال أول ستة أشهر من العام، فيما شهد الطلب في الصين هبوطاً بما يزيد قليلاً على 50%، بحسب بيانات مجلس الذهب العالمي. وفي الهند أيضاً، تراجع الطلب على المجوهرات متأثراً أولاً بعمليات الإغلاق الكبيرة التي أجبرت محال البيع بالتجزئة على إغلاق أبوابها، لكنه حالياً يتضرر من الضربة الاقتصادية الناجمة عن الأزمة الصحية -حيث انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 24% في الأشهر الثلاثة حتى يونيو- وسط تصاعد حالات الإصابة الجديدة بالوباء. كما شهدت الصين انخفاض مشتريات المجوهرات نتيجة للقيود التي خلفها الوباء، إضافة إلى التردد في شراء الذهب بأسعار مرتفعة، حيث سجل الطلب في البلاد خلال النصف الأول من هذا العام أدنى مستوياته منذ 2007 عند 152.2 طن. ومع ذلك، فإن شهر أغسطس الماضي، شهد تعافيا نسبياً للطلب على المعدن الأصفر في كلٍ من البلدين. التوقف المفاجئ ومع كون استهلاك التجزئة بمثابة إشارة رئيسية على قوة السلعة بالنسبة للمؤسسات الاستثمارية، فإن هذا الانحراف قد يهدد الاتجاه الصعودي للأسعار حال تراجع الطلب الاستثماري الغربي، مثلما كان الحال في أعقاب الأزمة المالية عندما انهارت الأسعار من مستوى قياسي مرتفع آنذاك عند 1920 دولاراً للأوقية في سبتمبر عام 2011 إلى نحو 1200 دولار للأوقية في عام 2013. ومن شأن التوقف المفاجئ في مكاسب الذهب أن يضر بعض أكبر مستثمري العالم، كما سينعكس بالسلب على المستثمرين الأفراد، مع الأخذ في الاعتبار أن أسعار المعدن هبطت بنحو 9% منذ المستوى القياسي المسجل في أغسطس وحتى الآن فيما شهدت أسهم شركات تعدين الذهب هبوطاً بنحو 13%. ويخاطر الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي خلفه الوباء بتسريع وتيرة الانخفاض في الطلب المادي على الذهب في الصين والهند، مما يقوض المستهلكين الأساسيين مقابل المستثمرين في جميع أنحاء العالم. ويقول "جيريمي إيست" مصرفي سابق في "ستاندرد تشارترد" إنه إذا تباطأ الطلب من جانب مستثمري الغرب فقد نشهد ضغوطاً هبوطية على أسعار المعدن. ويضيف: "لا يذهب الذهب إلى الصين، كما أن القليل للغاية يدخل الهند هذا العام، وهذا يعني أن مستثمري صناديق الاستثمار المتداولة الغربيين بحاجة للاستمرار في الشراء خاصةً إذا استمرت بكين ونيودلهي في اتجاههما بعدم الشراء حتى نهاية العام".
مشاركة :