«أنا الدنيا حدتني من تجاربها سقتني الراح والغصّة والنكالي صفت لي يوم دنّت لي ركايبها روتني عقب طيب الأنس لهوالي بحيلات الغدر تغدر بصاحبها تراها لو صفت ترميك في التالي» يعبر الشاعر «كميدش بن نعمان» في هذه الأبيات المكثّفة عن نظرته العميقة للحياة بكل انعطافاتها وتحوّلاتها وعدم استقرارها على حال ثابت، ونَسَقٍ واحد، مبتكراً الأمثال المفصحة عن طبيعة نظرته للدنيا، فهي النظرة المالكة لأفقها البانورامي الشامل، والتي لا تنساق لخدعة الراهن، ولا تتأثّر بانطباع سريع حول تفصيلة معيّنة تركّز عليها، وتوهم النفس بدوامها واستمراريتها، وهذه النظرة الشاملة هي التي ترسم الخريطة الذهنية الدالّة والمُرشدة للإنسان، وهي أشبه بنظرة الطائر الذي يرى الجزئيات والحيثيات كلها، وبالتالي يكتسب الشخص الواعي لأحوال الدنيا رصيداً وافياً من الحكمة والصبر والتأنّي، عند مجابهته لصروف الدهر وتغيّر المآلات وتكالب الأهوال. يكمل الشاعر وصفه التحليلي لمسار الظروف وتباينها بين شدّ وجذب، ونشوة وانكسار، وبهجة وأسى، قائلاً: «وكم عاشقٍ صفات الحبّ يكسبها ودانات اللوالي من غزر مالي تمرّ دهور وقت ما يحسّ إبها مريحٍ مستريحٍ خالي البالي وأنا الشادي أخطّ أبيات وأكتبها وأناجي صاحبٍ ما ينتظر حالي وأقول العون يا المضنون نطلبها من أهل العون نبغي بسّ الوصالي» في هذا الجزء الثاني من القصيدة يربط الشاعر كميدش بن نعمان بين سيرورة الدهر التي لا يشعر بها «مستريح البال والحال»، وبين سيرورة العشق التي تتقلّب فيها أحوال المحبين، صانعاً هنا منظوراً افتراضياً يعكس فيه الأضداد الموغلة في كينونة الدهر وكينونة العاشق، فكلاهما يختبران ذات التحولات المربكة، والتبدلات المحيّرة، والتي يجب التعامل معها بحذر ووسطية ودون إفراط أو تفريط، ويفصح الشاعر هنا عن دلالات قوية ترتكز على وعي متزّن واستنباط مكتمل لا يعير الموقف المؤقت كثير انشغال، أو طول تمعّن، ولا يمنحه حكماً ناجزاً، ذلك أن الوعي القارئ لدروس الماضي والحاضر، هو الوعي القادر على إدارة الزوايا، ومعاينة الجوهر وعدم الانصياع لزيف المظهر، ولذلك فإن التعاطي مع شؤون الحياة، والتعامل مع مجرياتها، إنّما يكون تعاطياً عقلانياً، وتعاملاً حيادياً، دون خضوع كامل للعاطفة، أو ركون مطلق للمشاعر الانفعالية واللحظية. تذكر السيرة الحياتية للشاعر كميدش بن نعمان الكعبي أنه من مواليد منطقة «الهير» القريبة من مدينة العين بإمارة أبوظبي العام 1947م، وتلقىّ علومه في المدارس الحكومية، ثم دخل في سلك الشرطة وأصبح ضابطاً فيها، وعمل في عدّة مناطق في الدولة، وشارك الكعبي في أمسيات شعرية في مدينة العين وبعض مدن الإمارات، وساهم في أمسيات أدبية وشعرية خارج الدولة، ومنها في مصر، وفي سلطنة عُمان والأردن، وقد نشر شاعرنا بن نعمان الكعبي قصائده في العديد من الصحف والمجلات المحلية، ومنها ملحق فجر الشعراء الذي كانت تصدره صحيفة الفجر الظبيانية سابقاً. اشتهر الشاعر بن نعمان بقصائد «الردح» و«الونّة» وله ردود ومساجلات كثيرة معروفة مع رفقاء دربه في رحلتهم الإبداعية المشتركة والمتّصلة بالقيمة الإنسانية والتاريخية والتراثية للقصيدة النبطية، ومن أكثر الشعراء الذين شاكاهم ابن نعمان، صديقه الشاعر أحمد بن خليفة الهاملي، كما كانت له ردود على شعراء آخرين، مثل محمد بن راشد الشامسي، وخليفة بن حمّاد، وسالم بن سعيد الكعبي، وغيرهم، وجذبت قصائد كميدش بن نعمان العديد من الملحنين والمطربين الشعبيين في الإمارات، أمثال علي بن روغة، وميحد حمد، وخالد محمد وآخرين، وقد غنى له ميحد حمد قصيدته «أنا الدنيا حدتني من تجاربها»، التي أوردنا أبياتها في مطلع المقال. كما تذكر السيرة الإبداعية للشاعر كميدش بن نعمان أنه ينتمي للرعيل الأول من شعراء المرحلة التالية للشعراء المخضرمين في الدولة، الذين عاشوا زمن ما قبل الطفرة، وعاصروا الفترة الحديثة، وتناوبت قصائدهم بين الزمنين بصيغ وأغراض مختلفة، كانت هي بنت مرحلتها ومنطلق إبداعها، ولذلك نرى في قصائد ابن نعمان القديمة نزعة تجاه اللهجة المحلية المتداخلة مع اللغة الفصحى، ومع المصطلحات الشعرية اللصيقة بمفردات الحياة القديمة وانشغالاتها وظواهرها، أما في قصائده الحديثة فنرى غلبة الأسلوب الممتنع، وطغيان العبارات السهلة والطيّعة، والإيقاعات والأوزان اللطيفة أو المتخفّفة من المعاني الثقيلة والمصطلحات الصعبة، وجرى على شعر كميديش ما جرى على شعر أقرانه ومجايليه، من تدرّج ومحايثة ومسايرة لإيقاع الزمن الجديد بشروطه ومتطلباته، خصوصا فيما ارتبط بالشعر الغنائي، والذي كان لها دور كبير في تغيّر النمط الشعري لدى ابن نعمان، ولكن من دون تقديم تنازلات مؤثرة على مستوى الخطّ المنهجي، الذي اتبعه في شعره المبكّر، والذي انطوى على ميل واضح للتبصّر والتأمل وإيراد الحكم والأمثال وتوظيفها كجزء حيوي وفاعل في جسد القصيدة النبطية، وفي بنيتها التعبيرية. يقول كميدش بن نعمان في إحدى قصائده الغزلية والغنائية الشهيرة، التي غناها المطرب الشعبي الكبير علي بن روغة: «بندب نسيم الصبايا / منّي بأزكى التحايا للّي ملكني هواهم / أهل القلوب السخايا لنّي عليلٍ متيّم / والحبّ كسّر عظايا ويا كم نفسٍ تعزّت / و ع الصبر مالي قوايا أرضّف النوح والْعَيّ / صبح ومقيل ومسايا» ونستشفّ من هذه القصيدة ميل شاعرنا الواضح نحو الإيقاع الحركي السريع، والاعتماد على وزن متضامن مع اللازم الموضوعي للقصيدة، بعيداً عن الاسترسال غير المُحتمل، أو الخروج عن حدود الفكرة المطروحة هنا بمزاج سردي رائق، تعززه القافية الممتدة لحرف الياء، وهي قافية تفصح عن رغبة في الانعتاق من ألم المعاناة التي يعيشها المحبّ، وتبثّ أملاً وشوقاً ورجاءً؛ كي يتغيّر الحال إلى الأفضل، وكي تزول العواقب والحواجز التي تحول دون اكتمال الوصال، وتجسيد الخيال، وتحقيق المآل. وللشاعر كميدش بن نعمان قصيدة غزلية أخرى رائعة أداها المطرب ابن روغة أيضاً، واشتهرت في الوسط الاجتماعي والغنائي، وتقول أبياتها: «يا حبيبي لا تهين ولا تجبّر / لا تعذّبني وتنقل لي وبالي شوف حالي كيف ذاب وكيف عبّر / روف بي إن ما كان قصدك زوالي الآدمي في حزّة الشدّات يصبر / لو صبرت الصبر مُرّ ولا هنا لي الحبيّب في الحشا أثّر وكسّر / يزّ حيلي الوجد ما فيّ احتمالي» ومجدّداً، نرى الرهان الواضح للشاعر كميدش بن نعمان على الأمثال المعبّرة والمُتخمة بفضائها الدلالي الرحب، كي ينسج على منوالها أبياتاً مضيئة تتيح لنا التأملّ في مقاصدها ومراميها، ومراقبة التنويع المشهدي فيها، وتقصّي أثرها الروحي والمعنوي على الشاعر، المبتلى هنا بعاطفة مشبوبة أنهكته وذوّبته، وأخذته نحو مصير يوشك أن ينتهي به إلى الزوال، لولا تمسكّه بالصبر، رغم مرارته واعتباره الحل الأوحد، والمنفذ الأقرب لمن عاش هذه التجربة الصعبة «الآدمي في حزة الشدّات يصبر/ لوصبرت الصبر مرّ ولا هنا لي»، وتنبع المرارة هنا من قوة الارتباط التي تحولت إلى ارتطام شديد بدواخل الشاعر، والتي باتت أقرب إلى دواخل محطمة يصعب احتمال نتائجها، والتي جعلت شاعرنا أشبه بالشجرة اليابسة المنزوعة الأوراق، المثقلة بالوجد والأسى حدّ الذبول والانهيار. ديوان وحيد صدر لشاعرنا «كميدش بن نعمان» ديوان وحيد في العام 2006 بعنوان: «ديوان كميدش بن نعمان»، وذلك ضمن سلسلة «شعراء من الإمارات» التي يصدرها «نادي تراث الإمارات»، بإشراف لجنة الشعر الشعبي، ويرد في مقدمة الديوان: «هذا ديوان لشاعر مكثر ذي نفس شعري طويل، تلمح في قصائده ملكة توليد المعاني وإظهار التفاصيل، وإن القارئ ليعجب لهذا التدفّق والانسياب الذي يلمسه واضحاً كل واحدة من قصائد الديوان، فأبياتها تتوالى في يسر وسهولة تشعر القارئ بأنه يستطيع أن يأتي بمثلها، غير أن التمادي مع هذه القصيدة يثبت أن هذا اليسر، إنما هو جوهر الموهبة، وأنه ملك لصاحبها دون سواه، فتطيعه الأوزان، وتتأتّى له القوافي، وتلين بين يديه اللغة، وتتوالى مفرداتها خفيفة لطيفة، كالنسمات الرخيّة العليلة لا يملّها الإنسان، وإن طالت». أسلوب أدبي رشيق يذكر الشاعر والباحث خالد الظنحاني في دراسة له حول قصائد كميدش بن نعمان بأن بأسلوبه الأدبي رشيق، وأن عبارته الشعرية تكتمل بالجماليات المتمثلة في العناصر الأساسية للكتابة الشعرية، ابتداءً من عنصر «التفكير»، مروراً بعنصري «الشعور» و«التصوير»، وصولاً إلى عنصر «التعبير»، ويشير الظنحاني إلى أن جماليات التفكير في أشعار كميدش تتضح في فلسفة الحب عنده، وإخلاصه لمبدأ رسوخ الحب وثباته، وما جاء في شعره من بيان لأحوال العاشق المعنّى، وذكر لتباريح الحب وأهواله ولوعته، والحسّاد وأصحاب الشماتة، مضيفاً: «كما شاعت في قصائده معانٍ نبيلة، كالترحّم والاسترضاء والدعاء لديار المحبوبة بالسقيا والرحمة، وجاءت في شعره أوصاف بديعة لجمال المحبوبة، وذكائها الأنثوي، فضلاً عن الحِكَمِ والنصائح وغيرها، وقد كانت هذه الأفلاك الأساسية التي دار حولها شعر كميدش بن نعمان».
مشاركة :