المنهج النبوي في القيادة والإدارة: صور الشورى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)

  • 9/18/2020
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

بقلم: د. زكريا خنجينواصل ما انقطع من حديث بالأمس حول بعض الصور والمواقع التي استشار فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم حول بعض القضايا. فتحدثنا عن صورتين واليوم نتحدث عن بقية الصور. الصورة الثالثة: الموافقة على مُبادرات بعض أصحابه رضوان الله عليهم وتقديم مُقترحات؛ وهذه لها العديد من الصورة ومن أشهرها: ما كان في غزوة بدر؛ فقبل نُشوب القتال في بدر بادر سعد بن معاذ رضي الله عنه بمشورة بناء العريش للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون مقرًا قياديًا للمعركة، فعمل صلى الله عليه وسلم بمشورة سعد، وبُني العريش للنبي صلى الله عليه وسلم (دلائل النبوة للبيهقي وسيرة ابن هشام).وفي صُلحِ الحُدَيبية؛ حين أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم أن ينحرُوا هديهم ويحلقوا رؤوسهم، فلم يقم منهم أحد، فدخل صلى الله عليه وسلم على أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتُحبُّ ذلك؟ اخرُج ثم لا تُكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تَنحَر بُدْنك، وتَدعوَ حالِقَك فيَحلِقَك، فخرَج فلم يُكلِّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه، ودعا حالِقَه فحلَقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يَحلِق بعضًا؛ حتى كاد بعضهم يقتُل بعضًا غمًا (صحيح البخاري). ويمكن أن يلاحظ أنها رضى الله عنها قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم تلك المشورة التي نجا بها أصحابُه رضوان الله عليهم من الوقوع في مُخالفة أمره صلى الله عليه وسلم.وفي غزوة خيبر حاصر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود، فأشار الحُباب بن المُنذِر رضي الله عنه بقطع النخيل؛ ليؤثِّر ذلك في معنوياتهم؛ لأن اليهود تُحب النخْل، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المشورة، وأمر صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، فأخذ المسلمون في قطعها حتى أسرعوا بالقطع (المغازي للواقدي). ويستمر الواقدي يقول؛ إلا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أشار بالتوقف عن قطع النخل؛ حيث إن هذا الأمر قد أدى مفعوله في معنويات اليهود، ولم يَعُد هناك ما يُسوغ الاستمرار في القطع، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، إن الله عزَّ وجلَّ قد وعدَكم خيبر، وهو مُنجِز ما وعدَك، فلا تقطع النخل، فأمر فنادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.وعندما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع من تبوك، نفد زاد المسلمين، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر ركابهم ليأكلوها، فأذن لهم، ولكن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه أشار بعدم نحر تلك الركاب؛ لصُعوبة تعويضها في مثل تلك الظروف الحرِجة والمسلمون بعيدون عن المدينة، وأشار بجمع فضْل أزواد المسلمين في مكانٍ واحد ثم يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عليها بالبركة ثم تُوزَّع عليهم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه (السنن الكبرى للنسائي والمغازي للواقدي). الصورة الرابعة: استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بصورة غير مُباشرة؛يشير كل من ابن هشام وعيون الأثر ومصنف عبدالرزاق الصنعاني؛ إلى أنه عندما هُزمت هوازن في حُنَين، غنم المسلمون أموالهم ونساءهم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم انتظر هوازن فترة من الزمن لعلهم يأتون ويسلموا، ولكنهم أبطأوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوزيع الغنائم بين المسلمين، وبعد أن تم توزيع الغنائم جاء أهل هوازن مُسلمين، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوفد قال لهم: «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟» فقالوا: يا رسول الله خيَّرتنا بين أحسابنا وأموالنا ؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا، فقال رسول الله: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا، فإني سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم» فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس ابن مرداس السلمي: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم».ويمكن أن يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض على الصحابة رضوان الله عليهم رأيه هو إلا أنه استشارهم بصورة غير مباشرة وإنما كانت طريقته حصيفة جدًا في رد سبي هوازن إلى أهليهم بل ومبتكرة، دون ضغط ولا إكراه، بل بالمثال الشخصي؛ إذ بادر هو بالتنازل عما بين يديه وأيدي بني عبدالمطلب أولاً، لذلك ما كان من المسلمين إلا الاقتداء به، والسيرُ على منواله في إعادة السبْي وذلك إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفيذًا لرغبته في العفو والتسامح، وإصلاح ذات البين، وتصفية القلوب من الضغائن والأحقاد، وتوجيه المغلوبين إلى اعتناق الإسلام، لم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرار لوحده – وإن كان هو قادر على ذلك – وإنما بالقيادة والإدارة الذكية ترك الخيار للشعب، وربما هذا الحادث يشير أيضًا إلى أن الهدف من الجهاد ليس  من أجل السبايا والغنائم وإنما الهدف الأسمى هو نشر دين الله.وتشير العديد من الدراسات الى إن تطبيق الشورى بهذا الأسلوب المُبتكر يدعو إلى التقدير والإعجاب؛ فهو قد عرض الحل الذي يُريده لخير المسلمين وهوازن، الغالبين والمغلوبين؛ لجمع الصفوف وتوحيدها، ونشر الإسلام بالحُسنى، وإزالة آثار الحرب المادية والمعنوية؛ حتى لا تبقى الأحقاد وتتصاعد، وتزول الضغائن من النفوس، فاستجاب المسلمون القدامى لهذا الحل ورحبوا به، ولم يستجب له بعض المسلمين الجدد الذين أسلموا بعد فتح مكة، ولم يرسخ الإسلام في قلوبهم وعقولهم بعد، فعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الذين لم يستجيبوا للحل الذي عرضه تعويضًا ماديًا يُرضيهم، فاستجاب المسلمون جميعًا للحل المُقترح.وختامًا، يمكن أن يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرتجل أمره، ولم يقرر أمر أي معركة لوحده، وليس في المعارك فحسب وإنما في الكثير من شؤون الحياة وخاصة التي تهم الناس والشعب المسلم في المدينة المنورة على الرغم من أنه نبي مرسل، فكان من الممكن أن يأمر فيطاع، وإنما أخذ بمبدأ الشورى التي تعد إحدى أهم الركائز والمبادئ التي جاء بها الإسلام.على الرغم من أن الشورى يمكن أن تُعد من الأمور التي يمكن فيها مخالفة أمر القائد، إلا أنه صلى الله عليه وسلم نظرًا لقدراته القيادية والإدارية وثقته بنفسه أمكنه أن يأخذ بهذا المبدأ حتى وإن خالف الصحابة أمره، وهذه هي قيادة وإدارة محمد صلى الله عليه وسلم التي أبهرت الدنيا.Zkhunji@hotmail.com

مشاركة :