كانتْ العولمةُ تواجه الكثيرَ من المصاعبِ حتى قبل تفشي جائحة فيروس كورونا التي هزَّت الاقتصادَ العالمي وجعلت الدولَ تسارعُ إلى إغلاقِ حدودها. فقد ظلتْ سياسةُ الانفتاحِ التجاري تسودُ الاقتصادَ العالمي على مدى العقودِ الماضيةِ غير أن هذه السياسةَ تضررت كثيرًا بسبب الحربِ التجاريةِ التي نشبتْ بينَ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية والصين. أصبحت التجارةُ العالميةُ تئن اليومَ تحتَ تأثيرِ التداعياتِ الناجمةِ عن تفشي جائحةِ كورنا في أكبر ضربةٍ كبيرة تلحقُ بالاقتصادِ العالمي خلال عقدٍ من الزمن. فقد أغلقت الدولُ في مختلفِ مناطقِ الكرة الأرضية حدودَها واضطربت الطرقاتُ التجارية العالمية. انخفض عددُ المسافرين عبرَ مطارِ هيثرو بأكثر من 95% مقارنةً بالفترة نفسها من السنة الماضية وانهارت الصادراتُ المكسيكيةُ بأكثر من 90% في شهر أبريل، ألغيت الحاويات التي تنقلها البواخرُ التجارية عبر المحيط الهادي بنسبة 21% في شهر مايو 2020. بدأت بعضُ الدولِ تتخذُ إجراءاتٍ حذرة لإعادةِ فتح الاقتصاد وراح النشاط ُالتجاري يدبُّ على وجلٍ من جديد. مع ذلك، يجب ألا نتوقع العودةَ إلى ذلك العالمِ الذي كانت فيه الدولُ تتيحُ تنقل الأشخاص والمبادلات التجارية بكل حرية. تسبب تفشي جائحة فيروس كورونا في تسييس السفر والهجرة ودفعت الدول إلى الانطواء على نفسها وهو ما قد يعيق عودة الانتعاش للاقتصاد العالمي الذي سيخرج من الأزمة الصحية الراهنة وهو في حالة من الهشاشةِ التي ستتفاقم بسبب انعدام الاستقرار الجيو- سياسي. لقد عرف العالمُ عهودًا من الاندماج وتداخل المصالح غير أن النظام التجاري الذي نشأ في فترة التسعينيات من القرن العشرين قد ذهب إلى أبعد مدى بفضل تيار العولمة. فقد تحولت الصين بفضل العولمة إلى مصنع العالم وفتحت الحدود أمام الأفراد والبضائع ورؤوس الأموال والمعلومات. بعد إفلاس مصرف الأخوين ليمان في سنة 2008 وهو ما جعل البنوك والشركات المتعددة الجنسيات تنسحب، الأمر الذي جعل الكساد يضرب التجارة والاستثمارات الأجنبية ما انعكس على الناتج الداخلي الخام في مختلف دول العالم. أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حروبه التجارية التي جمعت ما بين الخوف على استقرار وظائف الأمريكيين وتنامي الرأسمالية الأوتوقراطية الصينية مع أجندة يطغى عليها التعصب وازدراء التحالفات التقليدية التي بنتها الولايات المتحدة الأمريكية في فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما تفشي فيروس كورونا للمرة الأولى في مدينة ووهان الصينية في السنة الماضية كانت الضرائب التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على الواردات قد عادت إلى أعلى مستوى لها منذ سنة 1993 كما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية والصين تفصلان صناعات التكنولوجيا بينهما. منذ شهر يناير 2020 بدأت موجة جديدة من عدم الاستقرار من آسيا باتجاه الغرب. فقد أغلقت المصانع والمكاتب والمؤسسات ما تسبب في اضطراب الطلب وجعل من الصعب على المزودين الوصول إلى زبائنهم، غير أن الضرر لم يوقف حركة تصدير واستيراد المنتجات والبضائع الغذائية كما استطاعت الصين أن تحافظ على توازن صادراتها بفضل زيادة مبيعات المواد الطبية في ظل أزمة كورونا التي تعصف بدول العالم. يظل الضرر الذي لحق بالاقتصاد والتجارة العالمية فادحا. يتوقع الخبراء أن يتقلص حجم المبادلات التجارية بنسبة 30% هذه السنة. تعدُّ كوريا الجنوبية من أكبر المعاقل التجارية العالمية غير أن صادراتها قد انخفضت خلال الأيام العشرة الأولى من شهر مايو 2020 بنسبة 46% مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية، وهو ما يعدُّ أسوء تراجع في صادرات كوريا الجنوبية منذ سنة 1967. كشفت أزمة كورونا فوضى الحوكمة في العالم. فقد اختلفت فرنسا وبريطانيا حول قواعد الحجر الصحي وراحت الصين تهدد بفرض ضرائب انتقامية ضد أستراليا التي تطالب بفتح تحقيق دولي لتقصي منشأ فيروس كورونا، فيما صعدت إدارة ترامب من حربها التجارية. رغم بعض الأمثلة التي أظهرت التعاون خلال تفشي فيروس كورونا على غرار القروض التي قدمتها الخزينة الأمريكية لبعض البنوك المركزية الأجنبية الأخرى، فقد أبدت الولايات المتحدة الأمريكية عزوفا كبيرا عن قيادة العالم. تضررت سمعة الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الانقسامات والفوضى وحالة الاستقطاب الحزبي الحاد في خضم الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في شهر نوفمبر القادم.أما في مختلف أنحاء العالم فقد بدأ الرأي العام ينأى بنفسه عن العولمة التي باتت في قفص الاتهام. فقد اكتشفت الكثير من الشعوب أن صحتها العامة مرهونة بأدوات الوقاية والمعدات الطبية المستوردة من الخارج كما اكتشفت هذه الشعوب مدى اعتمادها على المهاجرين الذين يعملون في دور الرعاية ويؤمنون لهم عدة أعمال ويجمعون لهم المحاصيل الزراعية. هذه مجرد البداية. رغم أن تدفق المعلومات لا يزال يتمتع بحرية كبيرة خارج الصين إلا أن حركة الأفراد والبضائع ورؤوس الأموال والاستثمارات ليست كذلك بسبب العراقيل والعقبات التي باتت تواجهها. فقد رأت إدارة ترامب خفض أعداد المهاجرين معتبرة أن الوظائف يجب أن تذهب إلى الأمريكيين. قد تنسج بقية دول العالم على نفس هذا المنوال. أصبحت القيود تفرض على حرية السفر الذي سيحد من فرص العثور على العمل وتفقد المصانع. يعيش 90% من سكان العالم في دول حدودها مغلقة. قد تقرر بعض الحكومات الانفتاح فقط على الدول التي تشببها في ما تطبقه من بروتوكولات صحية، على غرار أستراليا ونيوزيلندا، وربما تايوان وسنغافورة. في هذه الأثناء خفضت شركة إيرباص إنتاجها بنسبة الثلث فيما قالت شركة الإمارات للطيران، التي تعدُّ من رموز العولمة، أنها لا تتوقع أي تعاف في عملياتها قبل سنة 2022.
مشاركة :