“الغابة الحلزون” هو معرض فني للصغار والكبار في شكل حلزون عملاق يتنقل بين أحياء باريس وضواحيها، ويحتفي داخله قرابة ثلاثين فنانا من فناني الستريت آرت بالإيكولوجيا، باستخدام المواد المهملة وإعادة تدويرها لصنع لوحات ومنحوتات فنية. غالبا ما يُعاب على فن الستريت آرت طابعه العرضي، فالذين يمارسونه، في وضح النهار، وبترخيص من الجهات المعنية، أو سرّا في الدهاليز المظلمة والمصانع والمستودعات المهجورة، يعلمون سلفا أن مجهودهم آيل إلى الزوال طال الوقت أم قصر، وأن جمهورهم محدود إلاّ إذا كانت لوحاتهم تتّخذ الشوارع مسرحا لها. وبرغم التزام الكثير منهم، وسعيهم إلى تبليغ رسائل، تظل أعمالهم مغمورة لا تبلغ متلقيها إلاّ في القليل النادر. ولكنها حين تتّخذ أشكالا أخرى يمكن أن تجلب أنظار الناس، وتطرح عليهم أسئلتها، كما حصل في هذه التجربة الطريفة التي لا تزال تحظى باهتمام الجمهور ووسائل الإعلام في باريس وضواحيها. “الغابة الحلزون” هو عبارة عن سرادق ضخم، في شكل حلزون عملاق، هيأته مجموعة من فناني الستريت آرت ليكون فضاء معرض متنقل غايته تحسيس الناس بمكانة البيئة في حياتهم، بأسلوب طريف استُخدمت فيه الأشياء المهملة لتدويرها وتحويلها إلى أعمال فنية، تحتفي بالخضرة والطبيعة وسائر الكائنات الحية. وبعد أن خيّم مدّة أسابيع في ساحة ستالينغراد وساحة دنفير روشرو بباريس، حلّ هذا الحلزون العملاق ضيفا على ضاحية مالاكوف حتى منتصف شهر أكتوبر الجاري، قبل أن ينطلق في جولة عبر عدة مدن فرنسية. المعرض من تصوّر الفنان أنيس – واللفظة تعني في الفرنسية نبات الأنيسون – (واسمه الحقيقي هادريان برنار) بالتعاون مع أفراد جمعيته إنزوك، وقد سبق أن أنجز مشروعا ضخما عام 2016 في هذه الضاحية بالذات، حين استدعى أربعين فنانا غارفيتيا لتأثيث ورشة كبيرة بأعمال غرافيتي ضخمة قبل هدم الورشة وتحويلها إلى مساكن اجتماعية. "الغابة الحلزون"، معرض فني للصغار والكبار محوره الغابة وكائناتها الحية، أتى في شكل أعمال ثلاثية الأبعاد أما هذه المرة فالثيمة محددة، محورها الغابة وكائناتها الحية، والعمل لم يعد طلي مساحات صقيلة ملساء ببخاخات ألوان، بل إنجاز أعمال ثلاثية الأبعاد. تجسّد المشروع بفضل تضافر جهود عدة فنانين ملتزمين بقضايا البيئة، تعاونوا على صنع هذا الحلزون العملاق وطلائه، مثلما تعاونوا على تأثيث فضائه الداخلي، فمهّدوا مساربه وتجهيزاته ومنحوتاته، بعضها نُصّب على الأرض، وبعضها الآخر معلّق في فروع الأشجار وأغصانها على قدر أحجامها لخلق عالم شاعري، هو عالم الغابة، جعلته المشاريع المعمارية الزاحفة خارج العمران، بعيدا عن الناس، لا يرتاده إلاّ قلة منهم. هو عمل فني يحوي عدة أعمال فنية، يدخله الزائر ليكتشف مناخا غابيا بكل مكوناته، ويكتشف أيضا أعمالا فنية تعكس شخصية كل فنان وأسلوبه، داخل هذا الفضاء الذي تبلغ مساحته ثلاثمئة متر مربع، ويبلغ طوله خمسة وثلاثين مترا، بينما يصل ارتفاعه إلى تسعة أمتار. ومن خارج هذا السرادق الضخم، يبدو الحلزون العملاق بذيل مذهّب صاغه إيفازي سير، وقوقعة أعدّها وطلاها ميكائيل بيرنس، أما الرأس الذي رُكّب فيه مصباحا سيارة مضاءان فهو من صنع سلاي 2. عندما يدخل الزائر يصادفه طوطم ضخم ذو ملامح حيوان أعده نوصبي، ثم تشكيلة أوراق ملونة جعلتها الآنسة موريس معلقة تلمع بشكل يسرّ الناظرين. كذلك لوحة حلم السيدة طبيعة كما تصوّرته فيني. وإذا اجتاز الزائر شجرة صاغها أنيس يمكنه أن يستريح على ذراعي باندا دودو ستيل، أو يحرّك زرافات موسكو، أو يعبر الطبقة الجوية لفاين كي يكتشف عناكب اسْوارْ الضخمة. ثم يواصل مساره الحلزوني وسط أشجار وأدغال حتى باب الخروج، فيكون قد مرّ بعوالم متعددة ترغّب الزائر في احترام الثروات الغابية وتحثّه على حمايتها والمحافظة عليها. وعلى غرار الحلزون الذي يعيش في تناسق مع البيئة الغابية، تمّ تصوّر “الغابة الحلزون” بطريقة تحترم البيئة، وذلك بإعادة استعمال المواد المهملة، وتحويلها. من ذلك مثلا أن منصة من البولستيرين عادت إلى الحياة في شكل عنكبوت، ومصابيح سيارة صارت مِجسّتي حلزون. فالمواد المستعملة هنا لا حصر لها، كالحطب والأثاث، وقوارير البلاستيك، وعلب الصفيح، والدّمى المخملية، وبخاخات الألوان الفارغة.. وكلها مأخوذة من مهملات يلتقطها الفنانون في مختلف أرجاء المدينة، في الخرائب، في المصانع المهجورة، على قارعة الطريق. وقد حصل أنيس ورفاقه على منصّات بولستيرين من مهملات مغازة “غاليري لافايات”، وألواح متروكة بعد عرض أزياء ديور في متحف رودان، وخزانات دراجات نارية لم تعد صالحة للاستعمال، أي أنه معرض ولد من فضلات مجتمع الاستهلاك، وغايته دفع الزوار، كبارا وصغارا، إلى التساؤل عن مصير مهملاتهم، وإعادة النظر في ما ينتهي استعماله عندهم، حتى يكون مصدر خلق وإبداع، وليس مجرد شيء ينبغي التخلّص منه. وتبقى الغاية عمليا احترام الطبيعة بالحدّ من الفضلات، وفنيا قبول فكرة أن يكون الجميل غير منفصل عن الجديد. يحسب لهذا المعرض أنه لم يقدّم صورة متشائمة عن الطبيعة وما آلت إليه بسبب التلوّث وهدر الطاقات والاحتباس الحراري، بل ركّز على أهمية الإيكولوجيا (وضرورة تدوير المواد المستهلكة)، في ثوب قشيب حوّل أجواء الغابة إلى نشيد يتغنّى بالطبيعة.
مشاركة :