لا تعتبر الرواية العراقية اليوم نافذة على واقع بلد متأزم فحسب، بل قراءة للتاريخ والمجتمع العراقيين في مختلف الحقب. وكأن الروايات العراقية اليوم تحاول إعادة بناء ما تلاشى وإعادة ترتيب البلاد عبر المعارف والعلم والثقافة والنقد والبصيرة النيّرة، وهو ما نجده في أعمال الروائية العراقية لطفية الدليمي. تعترف الروائية العراقية لطفية الدليمي بأن كتابة الرواية تفتح لها مسارا مضيئا في الزمن، فهي عالمها الأساسي فسيح الآفاق، الذي تمارس من خلاله حريتها في مدياته اللامحدودة، تشحنها بقوى خفية، وتضاعف تذوقها للحياة، وتعزز روحها وأحلامها، فكأنها تخوض تجارب بطلاتها وأبطالها وتشاركهم في جني نتائجها وخبراتها. تشكّل روايتاها الأخيرتان “سيدات زحل” و”عشّاق وفونوغراف وأزمنة” انعطافة جديدة في سردها الروائي، على مستوى البناء الفني والدلالي، واللغة والموضوع، على الرغم من أنهما امتداد لاشتغالها في رواياتها السابقة، فالقارئ المتبصّر يجد لهما جذورا خفية تمد شعيراتها إلى تربة روايتها “من يرث الفردوس”، التي تتوزع أحداثها على فضاءات متعددة وأزمنة متراكبة، كما يلحظ فيهما بعض مناخات روايتها “حديقة حياة”، التي تروي حكايات لا تنتهي عن ماضي البلاد الممتد إلى الأزل. ركّز أغلب النقاد الذين قرأوا رواية “سيدات زحل” للطفية الدليمي على أنها رواية تقوم على جمالية السرد الملحمي، وتستنهض روح الأسطورة، وتستعيد إنسانية الوجود بتجليات العشق والكشوف الروحية والجسدية. وذهب بعضهم إلى أنها رواية تفتح باب التأويل على مصراعيه، لتطرح التساؤل في وجه القارئ، أهي صدمة الحرب التي شطرت الشخصية الاجتماعية، ودمرت وحدتها النفسية في حالة فصام مؤسية وجارحة، أم هي عملية الاحتماء من قتل الهوية بانتحال الأسماء، وتزوير الهويات التي شهدها العراقيون وعاشوها منتصف العقد الماضي؟ تنقسم الرواية إلى تسعة فصول، تضم خمسة وثلاثين مشهدا، أطلقت الدليمي عليها تسمية “الكرّاسة”، وكل واحدة منها تحمل عنوانا مثل “الكرّاسة 1: بيت البابلي”، “الكرّاسة 2: سرداب الرؤيا”، “الكرّاسة 3: شارع الطاووس الأزرق”، وجاءت الكراسة الأخيرة بعنوان “زهرة أوكيناوا أو الجمال”. إضافة إلى ثلاثة مشاهد تقديمية، أو استهلالية في الفصل الأول تحمل عناوين “بغداد: نيسان 2008″، “هوامش في أوراق بغداد 2003- 2006″، و”بغداد 2006”. وتسرد كل كرّاسة من هذه الكرّاسات، التي دونتها بطلة الرواية وساردتها “حياة البابلي”، خلال سنوات الحصار والاحتلال الأميركي للعراق، إضافة إلى الأوراق المبعثرة التي سجلتها “البنات” عند مفوضية اللاجئين في عمّان، فجيعة أو أكثر من فجائع النسوة الشقيات اللواتي كنّ حبات القمح التي دارت عليها رحى الحروب في العراق، ونظم الاستبداد والظلامية الاجتماعية، وتمثّل في الوقت نفسه تقنية فنية يتكئ عليها السرد لكسر أفقيته، وتقويض حدود الجنس الأدبي، على غرار ما تفعله تقنية اليوميات والمذكرات والرسائل التي تنطوي عليها هذه الرواية. تعاني “سيدات زحل”، ومن ضمنهن الساردة “حياة البابلي”، العذابات والآلام نفسها، إذ يتعرضن إلى التهديد والقتل والاغتصاب، من جنود الاحتلال أو من المسلحين المتطرفين على حدّ سواء، بل إن المسلحين كانوا أشدّ وطأة عليهن من جنود الاحتلال، الأمر الذي دفعهن جميعا إلى الهرب من بغداد إلى دول الجوار، وطرق أبواب منظمات اللجوء، أو المهربين غير الشرعيين طلبا للنجاة. كان زحل في الأسطورة إلها للزمان والخصوبة والحكمة والزراعة والحصاد، وذريته تمثّل الماء والسماء والعالم السفلي، وفي المنظور الفلكي هو أجمل كواكب النظام الشمسي بسبب الحلقات البديعة اللامعة (المكونة من ألواح ثلج تعكس الضوء) التي تحيط به، وتمنحه صفة مميزة، وهو أقل كثافة من الماء، وإذا وُجِد محيط يحتويه فمن الممكن أن يطفو على سطحه. نهلت الدليمي من الأسطورة صفات القِدم والخصب والحكمة، التي تتميز بها بلاد النهرين، لذا فإن زحل هنا علامة رمزية تشير إلى “العراق”، وسيداته يرمزن إلى نساء العراق. كما نهلت رمزية الماء (أحد تجلياته)، الذي هو أصل كل شيء، ومنه ظهرت الحركة وتفتقت من قلب السكون (فعل الخلق وانبثاقه عن المياه الأولى/ الأنثى)، فجعلت “حياة البابلي” مُحبة للسماء والماء، “تتوهج عند هطول المطر”، ويشكّل اسمها علامة تحيل على “شجرة الحياة– الإيلانا”، التي تمثّل الألوهة في التراث السومري والبابلي. وتمثّلت الدليمي في الرواية، من خلال رؤية أنثوية مركبة يمتزج فيها الوعي بالذات، هذه التصورات الميثية والجمالية والواقعية، في مزيج مركّب، لإنتاج بنية دلالية تؤطر شخصياتها، التي دارت عليها رحى الحروب في بلاد الجنون، وطحنتها كما تطحن حبات القمح، لكن بعضها ظل مقاوما للموت والفناء، متمسكا، على نحو عجيب، بالحياة، مصمما على البحث عن خيط النور ولملمة شظايا الواقع، مؤمنا بطاقة الحب والحلم على التغيير والخلاص. وبإيحاء من التنجيم كشفت لطفية الدليمي عن “نحس طوالع النساء”، فـ”ما من نبوءة لم تتحقق، وما من توقعات لم تحدث، وكل ما أرجأته الكوارث للمستقبل، أو ادّخرته الأيام لبلاد أخرى وقع هنا وانتهى الأمر”، وحفرت في جذر الخراب وامتداداته في العراق “كل ما حولي هباء وموت”، وصوره البشعة في الماضي والحاضر. ترى الكاتبة أن “الزمن دوامات تلتف حولنا وأحداث ماضينا تستعاد بين دورات الزمن، ليس بمحض مصادفة بل بحتمية كونية لا تفسير لها، فأنتقل بين الأزمنة وأحوال مدينتي في عصورها وحكايات البنات، وأصنع صورة من هذا الحطام”، المتمثل بالمجازر والفواجع والمجاعات والاختفاءات والإعدامات والأشكال المختلفة من الاضطهاد والقهر والحرمان وانتهاك القيم الإنسانية، التي طالت طبقات وشرائح عديدة من المجتمع العراقي، وعلى نحو خاص هنا الطبقة المثقفة، المنتجة للمدنية والثقافة، على يد الساسة الطغاة، والمحتلين، والظلاميين. والرواية تحفل، في فصولها وكراساتها، بالكثير من صور هذا الحطام: اختطاف النساء واغتصابهن، وإخصاء الرجال وقص ألسنتهم وبتر أعضائهم، وغير ذلك من الجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال، ومسلحو الميليشيات، والتكفيريون، وقطاع الطرق، واللصوص على اختلاف أنواعهم داخل السلطة وخارجها. تعود بعض الروايات إلى الماضي في سرد الأحداث التي وقعت، لكن بأسلوب يخرج عن التكرار والنمطية ولا يقع في فخ التاريخ، فتأتي حاملة لروائح المكان والحنين إليه، كما يشحن الكاتب أثره بطاقة من العاطفة الممزوجة بالمشاعر الفياضة، وهذا راجع إلى تأثره بالأحداث. وتختلف رواية لطفية الدليمي الأخيرة “عشّاق وفونوغراف وأزمنة” اختلافا نوعيا عن رواياتها السابقة، بدءا من تعدد مستوياتها، وتميز أسلوبها، بوضوحه الرصين ونغمته الموسيقية اللافتة، وتفرد بنيتها السردية، وتعالق أصوات الرواة على امتداد الأزمنة. يُضاف إلى ذلك أنها رواية جيلية تحكي سيرة “عائلة الكُتبخاني” في سياق نشأة العراق الحديث، وتُعلي شأن رؤيا الخلاص الفردي. نكتشف، ونحن نمضي في قراءة الرواية، أننا إزاء روايتين متداخلتين تحكيان عن فترات زمنية متعاقبة من سيرة عائلة “الكُتُبخاني”، رواية أولى تجري وقائعها في عراق بدايات القرن العشرين في حقبة أفول الهيمنة العثمانية وانحلال الإمبراطورية، وفترة الاحتلال البريطاني وتشوّش الأوضاع وتداخل المصالح وتضاربها، ورواية ثانية تلاحق سليلي تلك العائلة في حقبة ما بعد الاحتلال الأميركي 2003. وتشكّل الوقائع العامة إطارا خارجيا يحتضن حيوات الشخصيات. يمكن وصف “عشاق وفونوغراف وأزمنة” بأنها رواية “جيلية” تروي أحوال أربعة أجيال من عائلة متنفذة كانت عونا للمحتلين، الذين تعاقبوا على العراق طوال أكثر من قرن، وحازت على الثروة والجاه، وتصدرت مواقع سياسية واجتماعية في كل عصر. تعتمد الرواية الجيلية هنا أنماطا روائية مختلفة، فيمكن توصيفها من جانب آخر بأنها رواية ذات نزعة “معرفية” عملت على تطويع كم كبير من المعلومات العلمية والفلسفية والفنية للمتطلبات الروائية المحسوبة بدقة، من دون إخلال بسلاسة السرد الروائي ومتعة التخييل، ما أثرى العمل بتفاصيل تاريخية ومجتمعية واقتصادية وعلمية عززت السرد المركّب المشحون بدراما الوقائع والحروب والعلاقات الإنسانية المعقدة، وكشفت عن أوضاع المجتمع العراقي القلقة وتناقضاته، والعوامل الأساسية الكامنة التي أفضت إلى هذا الخراب المستديم في حاضر البلاد. يمثّل “صبحي إسماعيل الكتبخاني” الشخصية المحورية في الرواية الأولى، التي تقوم على مدوناته الشخصية واعترافاته، ويمكن النظر إليه بوصفه مثالا “ليبراليا” نموذجيا تأثر بالفكر الأوروبي، واجتهد قدر استطاعته ليحقق تمرده على التقاليد المتزمتة؛ مقتحما عالم الحداثة في ملاحقة الاختراعات الحديثة والشغف بالعلوم والموسيقى والنساء. وتكشف مذكراته عن طموحات شاسعة، وسعي متواتر لتحقيق حلمه بتغيير نمط حياته، وواقع المجتمع البغدادي البائس الراضخ تحت الهيمنة العثمانية، وتحقيق بعض أحلامه وتطلعاته بتحرره من هيمنة الأسرة، وسفره إلى “الأستانة” للدراسة واكتساب الخبرات. تكشف الرواية، أيضا، عن تواشج مكونات المجتمع العراقي، وتنازع القوى الطامعة، والتزاوج المدنس بين المال والسلطة والأهواء الشخصية في سياق تشكّل متسرع لدولة العراق الحديث، الذي شاء الاحتلال الإنجليزي أن يكون صناعة بريطانية خالصة تضمن مصالحه وسيطرته على امتداد الشرق كله. شخصيات رواية "سيدات زحل" دارت عليها رحى الحروب في بلاد الجنون، وطحنتها كما تطحن حبات القمح وتشكّل قصص العشق هيكلا أساسيا للرواية، تتصاعد وتنمو الصراعات والتوافقات خلالها على امتداد أجيال عائلة الكتبخاني، منذ مطلع القرن العشرين حتى سنة 2014، وتتوهج بينها على نحو متفرد قصة العشق المثيرة بين “صبحي الكتبخاني” والمغنية “بنفشة خاتون”، التي تروي سيرتها بعض تاريخ العبودية في رحلة سحرية مشبعة بلذة التخييل الأسطوري المتماهي مع أساطير العشق المشرقية، بمفاجآتها وغرائبها. وتمثّل “نهى جابر الكتبخاني” الشخصية المحورية في الرواية الإطارية المعاصرة، وتعمل على تحقيق مذكرات الجد، التي لا تكتمل إلاّ بتواشج وقائعها مع قصة العشق بينها وبين “نادر”، عاشقها المهووس بالفيزياء والعلوم. وفي الوقت الذي تجتهد فيه الرواية لتأصيل أسباب الخراب العراقي، على المستويين الفردي والجمعي، وفي سياق التناول السردي لجوانب محددة من نشأة الدولة العراقية، فإنها تنتهي إلى تأكيد أهمية الخلاص الفردي وأسبقيته على كل الاعتبارات الأخرى.
مشاركة :