لا ينقطع السجال بين النقاد والكتّاب، الذين كتبوا سيرهم الذاتية أو استثمروها في رواياتهم، حول العلاقة بين هذين الجنسين، وكذلك عن المصطلح الذي يُطلق على الرواية التي تسرد أحداثا حقيقية حدثت لمؤلفها في حياته الشخصية. فهناك من يؤيد اندماج السيرة بالرواية وهناك من يرفض ذلك بشدة. هل يمكن دمج السيرة الذاتية، وتحديدا تلك التي تخص الأدباء، بالرواية لإحداث مزاوجة بين الواقعي والتخييلي، أو بين الحياة التي عاشها الأديب/ الروائي، بأبعادها الفردية والاجتماعية والإنسانية، ولعبة المخيلة؟ وكيف تذوب الوقائع الحقيقية في منظومة التخيّل الروائية من خلال توظيف الإمكانات المتنوعة واللانهائية التي يقدمها كلا الجنسين السرديين؟ من المؤكد أن الإجابة على التساؤل الأول هي: نعم، يمكن دمج السيرة بالرواية، رغم التباس العلاقة بين هذين الجنسين السرديين، خاصة إذا تذكرنا أن كل رواية تتضمن بطريقة أو بأخرى شذرات أو بعض مكونات السيرة الذاتية. في هذا الصدد تقول الروائية الفرنسية مارغريت دوراس إننا “لا نكتب شيئا خارج الذات”، ويفترض جورج ماي أن السيرة الذاتيّة والرواية شكلان يمثلان قطبين اثنين لجنس أدبي واحد، لكنه مترامي الأطراف، ويؤكد ماركيز، في نهاية كتابه “عشت لأروي”، بأن سيرته يجب أن تُعدّ جزءا مهمّا من أعماله التخيّلية لأنها ليست سوى تخيّلات حول حياته. ويتواصل السجال بين النقاد والكتّاب حول دمج السيرة بالرواية، ومن أبرز المصطلحات التي شاعت في هذا السياق مصطلحا “السيرة الروائية” و”رواية السيرة الذاتية”، وقد انحاز بعضهم إلى المصطلح الأول، وانحاز بعضهم الآخر إلى المصطلح الثاني، وقدّم كل منهما مسوغاته، على غرار ما حدث في مجال العلاقة بين الرواية والتاريخ، التي لا تزال موضع خلاف وجدل بين الروائيين والنقاد. وقد ظهرت كتب ودراسات عديدة حول هذا الموضوع، منها مترجمة ومنها مكتوبة بأقلام نقاد وباحثين عرب، أقرّ البعض بوجود وشيجة بين السيرة والرواية، وحلل نماذج من الروايات التي اعتقد بأن أصحابها اتكأوا في كتابتها على سيَرهم الذاتية. في حين استبعد بعضهم الآخر وجود مثل هذه الوشيجة. ويأتي كتاب “بين الرواية والسيرة في ضوء نظرية الأدب” للناقد والأكاديمي الأردني الدكتور إبراهيم خليل، الصادر حديثا عن دار أمواج للطباعة والنشر في عمّان، ليُضاف إلى الكتب التي تستبعد هذه الوشيجة. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب “نحن في الرواية نتعرف على عدد كبير أو قليل من الشخصيات، وهذه الشخصيات تختلف البعض منها عن بعض اختلافها عن المؤلف، ومما يبرهن على صحة هذا الرأي أن الكاتب الروائي يكتب في حياته عددا من الروايات، وفي كل رواية يخترع عددا من الشخصيات، فلو كان جديرا به أن يتكئ على حياته وتجاربه الشخصية، من حيث هو فرد، لوجب في هذه الحال أن يبعثر شخصيته وتجاربه في عدد من الذوات، التي لا تؤدي إلى ذات موحدة”. ينقسم الكتاب إلى قسمين، يختص الأول بالرواية، ويتناول في ثمانية فصول روايةَ “وداعا يا زكرين” لرشاد أبوشاور تحت عنوان “وداعا يا زكرين: التاريخ والسيرة بقناع روائي”، روايتي “حياة حصار” و”الصخرة وما تبقى” لفيصل حوراني بعنوان “بين السيرة والتاريخ والراوية”، ورواية “مفقود” لحيدر حيدر، ورواية “الجرمق” لمهند الأخرس، وهي سيرة بشروط غير روائية، ورواية “ظل الشمس” لطالب الرفاعي، وروايتين لمي بنات هما “مهرة” و”إليك”، وروايتي بثينة العيسى “خرائط التيه”، و”عروس المطر”. ويفرد المؤلف القسم الثاني من الكتاب للسيرة، متناولا في أحد عشر فصلا سير كل من الأدباء حسين البرغوثي “الضوء الأزرق”، أحمد المديني في كتبه الثلاثة “نصيبي من باريس”، و”نصيبي من الشرق”، و”فتن كاتب عربي في باريس”، أمجد ناصر “بيروت صغيرة بحجم راحة اليد”، فيصل حوراني “حنين”، محمود شقير “مرايا الغياب: يوميات الخزن والسياسة”، صلاح حزين “غسّان القلب”، فايز رشيد “الطريق إلى الوطن”، مريد البرغوثي “ولدت هناك.. ولدت هنا”، و”محطات من السيرة الذاتية” للسوداني طارق الطيب. مادة متخيلة الروائي ليس بطل أعماله (لوحة للفنان ساسان نصرانية) الروائي ليس بطل أعماله (لوحة للفنان ساسان نصرانية) لا يرى الناقد إبراهيم خليل في الآراء المنحازة للسيرة الروائية، أو لرواية السيرة الذاتية ما يكفي لإضفاء الصفة الأجناسية على السيرة، من حيث إنها رواية. فالرواية، من وجهة نظره، فن موضوعي، مستقل ببنائه، وفحواه، عن المؤلف، الذي يخترع راويا يفترض فيه أن يكون قريبا من الحوادث، والمرويّات، لصيقا بالشخوص، وبالأماكن، معاصرا للزمن الذي وقعت فيه المُجريات. ويعتقد خليل بأن ما يبرهن على صحة نفيه لاتكاء الروائي على سيرته الذاتية أنه، أي الكاتب الروائي الحقيقي لا المدّعي، أو الهاوي، يكتب في حياته عددا من الروايات، وفي كل رواية يخترع عددا من الشخصيات، فلو كان جديرا به أن يتكئ على حياته، وتجاربه الشخصية، من حيث هو فرد، لوجب في هذه الحال أن يبعثر شخصيته، وتجاربه، في عدد من الذوات، التي لا تؤدي إلى ذات موحدة. ووجب أن تكون شخصيته أباديد متناثرة يقول “نحن لدينا اعتقاد جازم بسلامة الرأي القائل: إن الرواية تختلف عن غيرها من النثر، ولاسيما السيرة، لكونها مادة متخيّلة بجل ما فيها من وقائع، وأشخاص. وهكذا يغدو اتكاء الكاتب على تسريبات من سيرته الذاتية، وتجاربه الشخصيّة، اتكاء مباشرا، أو غير مباشر، في الرواية، مظهرا من مظاهر الضعف، وذلك الضعف هو الذي أشاع في الرواية العربية ضربا من الهشاشة اللافتة للنظر، على الرغم من الزوابع التي تثار بقصد التهويل من شأن الروايات، ومن شأن بعض الروائيّين”. وعلى هذا الأساس يشكك المؤلف في قول بعض الروائيين إن أحداثا ووقائع من حياته تسرّبت في أعماله الروائية، أو إن حياة الكاتب الروائي مصدر دائم، ومرجعيّة لا غنى عنها، لكتاباته، فلا يبدع الكاتبُ روايته إلا ويغرف من معين ذاكرته، وتجاربه الشخصية. ويستشهد خليل بنماذج من الروايات العالمية التي لقيت إجماعا، أو شبه إجماع، على أنها روايات كلاسيكية جيدة، بل من الروائع، مثل “الأبله” لدستويفسكي، و”أنا كارنينا” لتولستوي، و”مدام بوفاري” لفلوبير، و”مرتفعات وذرنغ” لإميلي برونتي، وغيرها الكثير، لكن ليس “فيها قدر قلامة من سِيَر هؤلاء الكتاب” حسب اعتقاده. ويلفت المؤلف إلى أن الحوادث والوقائع في الرواية متخيلة، ويعرف القارئ عنها ما لا يعرفه عن الشخصية في السيرة، فكاتب السيرة الذاتية قد يخفي بعض ما جرى له أو قام به، من باب التحفظ، غير أن كاتب الرواية “حريّ به ألّا يتحفظ، وربما تغلغل في سبر غور الشخصية إلى ما لا يُذكر في العادة، ولا يُعرف”. يُذكر أن الناقد إبراهيم خليل نشر حتى الآن أكثر من خمسين كتابا في نقد الشعر والقصة القصيرة والرواية والتراث، ونقد النقد، منها: “الشعر المعاصر في الأردن”، “في الأدب والنقد”، “في القصة والرواية الفلسطينية”، “تجديد الشعر العربي”، “النص الأدبي تحليله وبناؤه”، “الأسلوبية ونظرية النص”، “الضفيرة واللهب: دراسات في الشعر العربي القديم والمعاصر”، “محمود الريماوي من القصة إلى الرواية”، “جبرا إبراهيم جبرا الأديب الناقد”، تحولات النص، “أقنعة الراوي”، و”الذاكرة والمتخيل في الخطاب السردي”.
مشاركة :