تبقى الحرية هي المنصّة الضرورية لإطلاق الأدب الطليعي والمتمرد إلى آفاق تجديدية عليا، خصوصًا الشّعر، الذي مرّ على مدار تاريخه بمحطات تثويرية كثيرة، اقترنت كلها بالتحرر من المفاهيم القديمة والمضامين المتوارثة والقوالب الإيقاعية الرتيبة، فكانت الحركات والمدارس الشهيرة خلال المئة عام الأخيرة: الديوان، الرومانسية، الشعر الحر (التفعيلي)، وصولًا إلى قصيدة النثر. لم يسلم تيار شعري من المعاناة والإحباط في مسلكه الوعر المليء بالمطبّات والظروف الملتبسة والقوى المُعادية، الأمر الذي يأتي على حساب القصيدة نفسها في نهاية المطاف، إذ تصاب بعد فترة من التوهج بقدر من الجمود والتكلس، وتنجرف تدريجيًّا صوب المجانية والاجترار والتكرار، وتنال منها أمراض الوسط الثقافي المتجذرة، ومنها: المحسوبية في النشر، المحاباة في النقد، التوجيهات الرقابية، التدخلات الحكومية والرسمية، المحاذير والضغوط المجتمعية، وغيرها. الوصاية والتابوهات رغم الحضور اللافت المثمر لقصيدة النثر العربية خلال النصف قرن الأخير، كوجه من وجوه الفن الحيوي المعبّر عن التفاصيل الصغيرة والأمور العابرة واهتمامات الشخص البسيط في معترك الواقع المعيش، فإنها تعرّضت بدورها لتلك الأزمات التي اعترت أشكال الكتابة والإبداع برمّتها. وصارت نماذج كثيرة من أعمال الشعراء الذين يجري التكريس لهم خلال الفترة الماضية مجرد اعترافات هشة ويوميات مذكراتية متورمة وتدوينات ألبوماتية وصياغات جاهزة مكرورة، إلى جانب ما في بعض النصوص الضعيفة من ظلال الخطايا القديمة، من قبيل: الدّعائية، الخطابية، الأدلجة، التسييس، الدور الوظيفي، الخ. مع التغيرات التي عصفت بالعالم مؤخرًا، حيث الثورات المعلوماتية والاتصالاتية والتقنية والرقمية، والنشر الإلكتروني، وشبكة الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، كان لزامًا على القصيدة العربية، شأنها شأن كافة أنماط الآداب والفنون المرنة، أن تعيد النظر إلى كل شيء لتتخطى مآزقها ومشكلاتها، لاسيما تلك العثرات والقلاقل التي حدّت جموحها وجنونها وفورانها، وأسقطتها في فخاخ التبعية والانقياد والتوازنات. انتفاء سلطة الرقيب وتلاشي بوابات الإجازة والمنع وتضاؤل سطوة دور النشر لم تفلح في تحرير النصوص الشعرية عانت القصيدة طويلًا، قبل حلول هذا العصر المفتوح، في رحلة تشكّلها ووصولها إلى القارئ، فالشاعر لم يكن يملك تمرير كلماته بغير مجلة متخصصة أو منبر ثقافي أو وسيلة إعلامية للتصديق على اسمه وتقديمه للمرة الأولى، ولم يكن قادرًا على نشر ديوان بغير صك اعتراف من هيئة رسمية أو سلسلة حكومية أو لجنة قراءة بإحدى دور النشر الخاصة لتجيز تجربته، وقد تتوقف الطباعة بعد الإجازة لأسباب مادية وتسويقية بدعوى أن الشعر نشاط غير مربح. وغير خفيّ بطبيعة الحال أن الكثير من هذه الآليات لم تكن تدار بنزاهة، لاعتماد وزارات الثقافة في العالم العربي في أغلب الأحوال على الموظفين وغير المختصّين، من أصحاب الرؤى القاصرة، والمصالح الانتفاعية الضيّقة. وإلى جانب الإدارة الثقافية السيئة، القائمة على الانحياز والمجاملة، فقد حَرَمَت “التابوهات” والمقدّسات الوهمية والتصوّرات المسبقة حول الكتابة وشروطها أجيالًا من الشعراء النابهين من تقديم أنفسهم بطريقة مغايرة، فسقطوا في بداية مشوارهم يائسين ومنهزمين بسبب وصاية المسؤولين وأصحاب القرار. ومع اتساع الفضاء الرقمي وكثافة الاعتماد على النشر الإلكتروني من خلال المواقع والصفحات الشخصية والأدبية، غاب شبح الوسيط المزاجي المتحكم في انفجار الشعر وسيولته، وانتفت سلطة الرقيب، وتلاشت بوابات الإجازة والمنع، وتضاءلت سطوة دور النشر الرسمية والخاصة، وامتلكت القصيدة بفضل النشر المباشر أجنحة التحليق الذاتية، التي يُفترض أن تقودها إلى أعلى مدارات الحرية والانفلات والاستقلالية، وإقامة علاقة تفاعلية مع القارئ، لكنّ الغريب أن النسبة الأعمّ من النصوص الشعرية الجديدة لا تزال متذبذبة ومتوجسة أمام تحقيق آمالها وطموحاتها، لأسباب تتعلق بطبيعة هذه النصوص نفسها في هذه المرة. فواصل وهمية من المثير للدهشة، أنه من النادر أن يعترف شاعر على الساحة بالحقيقة الواضحة وضوح الشمس، وهي ببساطة أن أزمة القصيدة السائدة حاليًا ليست ذات صلة بما يحيط بها من ملابسات غير فنية واعتبارات غير جمالية، وإنما يكمن الانحدار الجوهري في ماهيّة القصيدة وكينونتها، وفي انفصامها عن روح العصر ولغته وفلسفته، وشذوذها عن الهواء الطلق الذي ينشده سكّان الكوكب، بغير أجهزة إعاشة اصطناعية. لا يزال هناك مَن يصرّ على ربط اتساع الفجوة بين القصيدة وقارئها بعوامل غرائبية، منها ما هو إنشائي تعميمي مثل سيادة ثقافة الاستهلاك وتعاظم مقتضيات السوق وعدم حصول الشعر والشعراء على التقدير اللائق والرعاية المؤسسية والاهتمام الإعلامي إلى آخر هذه الكليشيهات. ومنها ما هو ملفق ومدسوس إلى درجة التدليس، من قبيل ذلك الاتهام الاستسهالي للجمهور بفقدان الأهلية ونقصان الوعي وعدم القدرة على ملاحقة منجزات الشعر الجديد وتقصّي أعماقه وحكمته ومستويات تأويله واستبطانه. أما أعظم المغالطات، التي أدّت إلى إرباك حركة القصيدة وتوجيهها إلى اتجاهات معاكسة وخاطئة، فهي سذاجة الخلط بين حرية القصيدة كقيمة مجردة، وتبنيها شعارات دعوية تحت مظلة النزعات التحررية. إن حرية القصيدة مرهونة بما تنجزه هي بأدواتها وابتكاراتها كفن نوعي في حقلها الخاص، وهذا لا علاقة له مثلًا بركوب موجات: الكتابة الإباحية، التجديف والهوس اللاديني، أناشيد الثورات العربية الهاتفة بالحرية في الميدان، منشورات الرفض والمعارضة السياسية، وغيرها من الأنساق الجريئة شكلًا، المتمسّحة ظاهريًّا بالحرية كبيانات لغوية، دون أن تحققها القصيدة ذاتها بيديها. لا مجال لبلوغ القصيدة حريتها سوى بقصر الاشتغال على العملية الشعرية وحدها وتنقيتها من رواسب التبعيّة، بوصف الإبداع كيانًا مستقلًّا بذاته، وفعلًا مكتمل الإرادة، وتلك هي النظرة الجديدة للشعر، المخالفة لدوره السابق، إذ طالما كان مرآة دعائية لقوى مركزية استقطابية، ما أدى إلى إفراز نجومية فئات محددة من الشعراء، بحسب وظيفة الشعر لديهم: شعراء البلاط، شعراء السلطة، شعراء القضية الفلسطينية، شعراء المعارضة، إلخ. ليست هناك وصفة وخارطة استراتيجيات، لكنّ تصالح القصيدة مع ذاتها يبدأ من منابع الشعرية البكر، الخام، الموجودة بذاتها، المحصّنة بنبضها الطبيعي ضدّ “العولبَة” الفجة والتصنيع الميكانيكي ومكسبات الطعم واللون والنكهات الإضافية وألاعيب الزينة، أي أن يبقى الشعر شعرًا كهدف أول، ويحسن الشاعر قراءة ذاته القريبة دون عدسات، ليتمكن من قراءة واقعه، ومستجدات عصره، ومخاطبة صديقه القارئ الذي يتقاسم معه الخبز والهموم. هذه الشعرية الجديدة تعنى في أولوياتها بالإنساني الخاص، والمشترك، ومسألة الوجود، ولا تكاد تتوقف عند الظواهر العارضة والقضايا الزائلة والمثاليات الكبرى التي تنهار تباعًا على صخور الأرض. ومع إلغاء الحواجز وإذابة الحدود، يمكن للشاعر أن يستهدف جمهورًا أوسع من ذي قبل، هو العالم كله إذا أراد، ومكّنته قصيدته المستساغة، على أن يزيل أولًا تلك الفواصل الوهمية بينه وبين نفسه، فتتلاشى المسافات بينه وبين الآخرين. إن غياب الوسيط ليس معناه فقط إتاحة إمكانية النشر المباشر في أي وقت مراد دون تدخلات، لكنه يفتح الأبواب والنوافذ جميعًا أمام الشاعر من أجل رؤية خاصة تأملية للذات والعالم، لتتولد القصيدة الحرة لديه بفعل طاقته التفجيرية وقدرته على الاستشفاف والتكثيف بروح طفولية، بعيدًا عن تعليمات القصدية والاحتشاد، ودون أن تعني هذه التلقائية المهيمنة ارتماء سلبيًّا في أحضان دوّامات اللاوعي، وانتزاعًا تعسّفيًّا للحضور الذهني والخططي والثقافي والمعرفي من خلطة الكتابة الاحترافية، المتخذة من الهواية عنوانًا عريضًا.
مشاركة :