يعتبر الشاعر المصري مؤمن سمير من التجارب المختلفة في قصيدة النثر المصرية حيث أن له وصفته الخاصة والمتجددة في الكتابة. “العرب” التقته في هذا الحوار حول قضايا الكتابة الجديدة، وتجربته الإبداعية والتنظيرية، وإصداراته الحديثة المتنوعة، كواحد من أنشط شعراء جيل التسعينات في مصر والعالم العربي. يفتّش الشاعر المصري مؤمن سمير في الكتابة عن بهجة الاحتضار وعن “تفكيك السعادة”، ويتمنى فرصة واحدة لاحتضان ذاته، ليعشقها أو ليكرهها منفردًا، بمعزل عن الآخرين. والقصيدة لديه رؤية بسيطة خاصّة للحياة، وفعل شخصي في الأساس، وانخراط طفولي في النزق واللهو، وانجراف جنوني إلى المخاطرة في غياب الوصاية والرقابة، وفي حضور هواء جاف يجرح الملامح. تنطلق كتابة مؤمن سمير من القريب الذي يبدو أنه في المُتَنَاوَل، لكنه السهل الممتنع، من حيث الرؤية والالتقاط، وأبجديات إعادة صياغة الحالة وتركيبها، وتفجير اللحظة شظايا لامتناهية. وهو شغوف بالواقع، لكنه ليس مضطرًّا إلى الإبصار بعيون واقعية. قد تتنازعه أخيلة وتصوّرات ذات طابع سوريالي “المكان الوحيد الذي تمنيتُ زيارته هو المقابر، لأنبشها وأراهم في صورتهم الحقيقية الجميلة. وحبذا لو عثرتُ على ذراعٍ أو ساقٍ أو جمجمةٍ تائهة لأطحنها وأزرع المسحوق في الطين فتنبت الشياطين”. بين رفقاء جيله من كتّاب قصيدة النثر، تنغمس شعرية مؤمن سمير في فلسفة الشك، على اعتبار أن التجريب هو وقود كل إبداع حقيقي وفن طليعي. ويؤكد الشاعر في حديثه لـ”العرب”، أنه راهن على تمحيصه الذاتي لأعماله عبر سنوات طويلة من المحاولات والغزل والنقض المستمر، وكذلك الشك الدائم في ما أنجز، والتجرد الصارم الذي ينهل من درس المشهد بقلبه وأطرافه، ثم تأمل أطروحات الدرس النقدي لهذه التجربة بالذات دون سواها. كتابة مؤمن سمير ابنة القلق والبحث الدائم والمحموم عن مداخل تصلح لإنتاج الشعرية، فهي تعتمد مفهومًا يرى اليقين الجمالي والفني والفلسفي موتًا وتكلسًا وحرثًا في البحر، وأن القوس لا بد أن يبقى مفتوحًا ومرنًا وطيِّعًا ورافضًا طوال الوقت، فلا وصول ولا قبض على إجابات، لأن الركون المطمئن لشكل أو طريقة خاصة أو سكة معينة في الكتابة هو الوهم الذي يودي بصاحبه “لماذا تفرض الوردةُ علينا الحياةَ بهذه الطريقة الفجة؟ يحملونها للمرضى لتذكرهم بأنهم سيذبلون ويموتون قريبًا”. هكذا، فإن في أعمال صاحب “تأطير الهذيان” و“حيّز للإثم” و“إغفاءة الحطَّاب الأعمى” قصائد تعتمد شعرية التفاصيل والمجاز الكلي وإعلاء السرد الفني، وأخرى تشاغب المجازات وتقترح مجازات أوسع قليلاً من المجازات المعتادة، وقصائد تجرب في الشكل، وأخرى تلعب بالمعنى الحرفي للعب، ودواوين تبدأ من نقاط وأسئلة تستمر بلا رسم مسبق لأيّ نهاية محددة. ويقول مؤمن “حاولتُ صنع وحدات شعرية تصلح في حد ذاتها للقيام بدور مّا معرفي أو فني أو حتى نقض أيّ دور قارّ في الذاكرة، فأوجه التمايز والاختلاف بين أفراد الجيل الواحد مفترضة وواجبة، لتكون للمبدع ملامح مشروع شعري خارج السمات العامة التي وضعها النقد أو وضعتها الثقافة لشعرية هذا الجيل”. أنطولوجيا تضم قصائد 150 شاعرا أنطولوجيا تضم قصائد 150 شاعرا من هذا المنظور، يرى مؤمن سمير أن الشعر المصري يختلف عن الشعر في الخليج وفي المغرب العربي وبالطبع عن بقية شعريات العالم، فلكل شعر خاصيات ثقافية وفنية تنبع من تفرد الشعب وثقافته ومدى تجذره في الزمن وتجاربه الحضارية والسياسية وبالأساس تجارب أجياله المتمردة فنيًّا، ومن يقول إن هناك قصيدة نثر عربية فهو مخطئ، فهناك قصائد نثر بعدد الدول والشعوب، بل في الحقيقة بعدد منتجيها في كل مكان، وهذا هو سرها وسحرها وخطورتها. لم تخْلُ طريقة تتعاطى مع العالم عن طريق الفن من تأثير العصر الحديث الرقمي، سواء في الإبداع المصري أو العربي أو العالمي، ويرى مؤمن سمير أن ما جرى من تجليات للثورة الرقمية والمعلوماتية والاتصالية والتقنية أشبه بالطوفان الذي غيَّر القناعات وأجبر الجميع على استعادة “سؤال الحرية”، الذي طمسته بعض التيارات الرجعية. ويشير إلى أن الشعر كفن “حساس وغير معتزل وابن طبيعي لمجتمعه وثقافته وظروفه ومؤثراته، خضع كبقية الأشكال الفنية لهذه الثورة واستقبلها فاتحًا قميصه، فقامت هي برفده بقيم الاتساع والشجاعة والتعبير بأقصى قدر من الحرية والنظر وإعادة النظر في كل القيم التي ترسّخت طويلًا، مثل مفهوم الرقابة أو التوجيه المسبق، ما انعكس على التجارب المقدمة وعلى حساسية اللغة، وبالتالي اقتراح بلاغات جديدة بشكل دائم”. إن الشاعر الذي كان يعاني للحصول على كتاب من دولة أخرى، طرح عن كاهله هذا الأمر، وصار يتابع تجارب الشعراء الآخرين في كل الثقافات وفي كل اللغات طوال الوقت. لقد أصبح تجاور الثقافات والمذاهب والاتجاهات والرؤى والفلسفات حقيقة ملموسة على الأرض وفي فضاء الكتابة. أما أحدث تلك التغيّرات والتطورات في الآداب والفنون جرّاء تقلبات العصر، فهي المقترنة حاليًا بحلول جائحة كورونا وتداعياتها الثقافية والفكرية والفلسفية. ويرى مؤمن سمير أن هذا الوباء القاسي العجيب قد أجبر العالم على أن يوقف لهاثه قليلًا، طارحًا سؤال الجدوى، ومذكرًا الإنسان بعجزه القديم “أَدُقُّ على الكهفِ، يومَ خبَّأَ نفيرَ الحربِ، وكذباتٍ مُعتَّقَة”. أسئلة واتهامات قصائد تعتمد شعرية التفاصيل والمجاز قصائد تعتمد شعرية التفاصيل والمجاز يحمل مؤمن سمير على عاتقه مسؤولية تقديم الشعراء الجدد، مثلما أنه في شعره يتقصى كل خفيّ وجديد “مع الوقت تَربَّتْ لي حاسة مميزة، هي اكتشاف الآخرين قبل ظهورهم/الظِلالُ قلَّما تخطئ/الظِلال هي الروح الخام/ألمحُ الظِل فأحس بصاحبه”، وقد أصدر منذ فترة وجيزة “أناشيد الغيمة المارقة”، وهي أنطولوجيا تضم قصائد 150 شاعرًا من “الموجة الأحدث لقصيدة النثر بمصر”. وهنا قد يثار تساؤل: كيف يكون هناك مئة وخمسون شاعرًا “دفعة واحدة” ضمن موجة واحدة أو جيل جديد واحد؟ وهل هذا الحشد الكميّ مؤشر إلى التنوع والزخم أم قد يكون دليلًا عكسيًّا على التشابه والاجترار والتنميط؟ يؤكد سمير لـ”العرب”، أن حال الجيل الأخير في قصيدة النثر المصرية يختلف ويتباين تباينًا شاسعًا عن وضعية الأجيال أو الموجات الثلاث الكبيرة السابقة عليه، وهي أجيال السبعينات والثمانينات والتسعينات الشعرية، فهذا الجيل الأحدث يتميز بالسيولة التامة كونه لا يخضع لفكرة التأطير الزمني كالسابق، وكذا إمكانية انضمام شعراء جدد وشعريات جديدة كل لحظة إلى متنه المرن، كما أن وسائل الاتصالات كانت بمثابة المحفز للكثير من أبناء الأجيال والتجارب الأسبق الذين ابتعدوا لأسبابٍ شتى، فعادوا والتحقوا بالحراك الشعري. لهذا، فإن عدد الشعراء بهذا الطرح ليس كثيرًا، لأنه “نتاج الواقع الشعري الحالي، الذي هو خليط من الشباب الأصغر سنًّا، وأصحاب التجارب الأسبق”. ويستطرد مؤمن سمير قائلًا “عند تأمل التجارب المختارة، نجد شعريات مختلفة المشارب والمنابع والانحيازات الفنية، بما يدعو للتأمل والثقة في مستقبل هذه القصيدة التي ديدنها التنوع والاتساع”. المشهد الشعري يوصف بالفشل والتداعي أو الوقوع الجماعي في فخ التكرار وانعدام التمايزات والأصالة الفنية وحول ما يتردد من اتهامات لقصيدة النثر في السنوات الأخيرة بالسقوط في فخ المجانية والاعتيادية، بما يعني المذكراتية والألبوماتية، وفقدان المباغتة والومضة المدهشة، وغياب الفروق الفردية، يرى مؤمن سمير أن هذا الطرح صحيح في المطلق، لكنه غير دقيق على مستوى الرصد المتعمق، فقصيدة النثر قادرة على حماية نفسها من هذه الأعطاب، ولا تعني زيادة عدد أصحاب التجارب المتاحة والمجانية. وهو أمر وارد بالفعل لدى الأكثرية، أن المشهد برمته يوصف بالفشل والتداعي أو الوقوع الجماعي في فخ التكرار وانعدام مناطق التمايزات والأصالة الفنية “الشعر في حقيقة أمره مشروع فردي، لهذا ينبغي النظر بحذر إزاء الأحكام التي تخص قطاعات واسعة ومعتبرة من الشعراء. إن المشاريع الضعيفة والمتهافتة والمكرورة موجودة بكثرة، وكذلك فالتجارب المميزة والمتفردة موجودة ومتحققة”. بالتوازي مع مسار الإبداع الشعري المنطلق إلى الأمام، فإن النقد صاحب دور مهم ومؤسس في استقبال الحساسيات الفنية الجديدة في الكتابة وملاحظتها ورصدها، ثم وضعها في سياقها النقدي والثقافي والشعري، والاهتمام بكل ظاهرة فنية ومناقشتها وتحليلها ولفت النظر وفرز المناطق الأصيلة المؤهلة للاستمرار عن تلك الطارئة الجاهزة للفناء السريع.
مشاركة :